الدين والسياسة وكفاءة الحكومة الدينية (2)
والواقع ، بما أنّ الاسلام يتوكأ على الأحكام بوصفها إطاراً للعمل والممارسات ، وكذلك امكانية تغيير الأحكام الموجودة (الأحكام الثانوية) واستنباط أحكام جديدة ، لذلك كان من واجب الحكومة الدينية تمهيد الأرضية وتوفير المقدمات اللازمة لترشيد الانسان باتجاه بلوغ الأهداف المتسامية . وهكذا لا ينهض النسق الاجتماعي على مجرد الوجدان والوعظ الأخلاقي . وهذه نقطة على جانب كبير من الأهمية يؤدي اغفالها إلى احباط النقاش حول الحكومة الدينية وضروراتها وما تواجهه من تحديات ذلك أنّ المائز الرئيس بين الحكومة الدينية (الاسلامية) والحكومات غير الدينية يعود إلى المعرفة بالانسان وبالعالم وطريقة ادارته . الأخلاق والأحكام والحقوق تشابكه في الاسلام ، والانسان ـ فرداً ومجتمعاً ـ يفسر حياته ويتحرى معناها ابتناء على مكانته في نظام الخلقة . أمّا الحكومات غير الدينية فبفصلها بين الدين والسياسة وايحائها بتفاسير مادية بحتة للحياة ، تقحم ضرورة الحياة ومعناها في غموض عميق وشكوك لا علاج لها ولا اجابات ناجعة .
هذا ادعاء كان يمكن تأييده والقبول به ، وحسبنا أن نلقي نظرة إلى تجارب عدة قرون من المكابدات الفكرية العملية للأنظمة السياسية ـ الاجتماعية في العالم الغربي . فقد حاول الغربيون في العصر الحديث عبر الابتعاد عن قيود دينهم ـ الأمر الذي شمل كافة الأديان تدريجياً ـ من ناحية ، والافادة من محصلات النزاع بين القوى الداخلية للأفراد ، وايجاد منظومات اجتماعية وسياسية واقتصادية مؤثرة في السيطرة على السلوك الفردي والاجتماعي للانسان من ناحية ثانية ، الخلوص إلى صناعة مجتمع أفضل وأرقى . على أنهم أخفقوا في ذلك ، أو قل إنّهم لم يحرزوا نجاحات ملحوظة .
في كتاب «الأهواء النفسية والمصالح» يستقي آلبرت هيرشمن من مصادر ألمانية وبريطانية وفرنسية ليعالج الوضع الراهن في الغرب ، ويقول :
الاصرار على أخذ الانسان «كما هو فعلاً» له ايضاحه البسيط . انبثق خلال عصر النهضة ظن أضحى عقيدة راسخة في القرن السابع عشر ، فحواه أن كتب الأهواء النفسية المدمرة للانسان ما عاد متاحاً بواسطة فلسفات وعظية حكمية دينية ، إنّما يتعين التوسل بأساليب جديدة .. عموماً ينبغي انطلاقاً من صياغة نموذج الأفعال الانسانية ، اكتشاف أساليب أعمق تأثيراً من المواعظ الأخلاقية أو الانذار من العذاب الإلهي([1]) .
ويكتب في خاتمة الكتاب كاستنتاج ذي منحى محافظ تجاه الرأسمالية :
في أحد أبهر وأنفذ ... النقود ] على الرأسمالية [ جرى التشديد على الطابع الكبتي والاغترابي للرأسمالية . وهو الطابع الذي يحول دون تمدد «الشخصية الانسانية المتكاملة» . وهذه تهمة تعد من وجهة نظر الرسالة الحالية غير منصفة بعض الشيء ، إذ لم يكن المتوقع من الرأسمالية غير هذا أساساً . بل كان المقرر أن تكبت بعض الدوافع والنزعات من أجل خلق شخصية انسانية تبتعد قدر الامكان عن التعددية في الإبعاد والقدرة على الإدهاش ، وتقترب ما أمكن من النمطية والاحادية»([2]) .
بملاحظة جوانب كثيرة أشرنا إلى بعضها في السطور السابقة ، يمكن القول أن هداية الانسان صوب التعالي والحرية والكمال وئدت بقسوة وأفرغت من معناها . بتعبير آخر ما تحقق في العالم الانساني أثر المساعي الفكرية والعملية لقرون طويلة بدا ضئيلاً هزيلاً بامتياز مقارنةً مع ما تحقق من تطورات تقنية ، والسبب هو اهمال وكبت بعض الحاجات الفطرية للانسان ومنها نزعته إلى الدين .
وبهذا ظهرت الحكومات غير دينية نتيجة تأليه الانسان ومركزيته وبث روح العصبية المجانبة للدين والمحاربة له في تكوين الرؤى وانتقاء السلوكيات ، إلاّ أن مجتمعات وسياسات أفضل وأكثر انسانية لم تظهر إلى النور نتيجة تلك الانساق النابذة للدين .
يسوق العلاّمة الطباطبائي دليلاً جد لطيف في هذا الباب إذ يقول : إنّ القوانين البشرية تشرف على أعمال البشر ، لا على مشاعرهم الداخلية وأحاسيسهم الخفية ، والحال أنّ الاختلاف ينبع من الشعور الداخلي والأنانية والأحاسيس الخفية([3]) .
ويشير كذلك في بحث حول التباينات المنهجية بين الحكومة الدينية والحكومات غير الدينية ، إلى جملة نقاط منها ذلك المنهج الذي أوضحه هيرشمن ، أي التوكيد على «المصلحة» و «النفع» كمرجع في العلاقات الاجتماعية بالمفهوم الواسع للكلمة . يقول العلاّمة الطباطبائي إن من أكبر التفاوتات بين هذا المنهج والمنهج الاسلامي هو أن هذه المجتمعات بما أنها تقوم على اساس التمتع واللذة والمصالح المادية ، لذلك تسودها روح الاستثمار والاستخدام وهي روح التكبر الانساني التي تخضع كل شيء لارادة الانسان وممارساته العملية . وحتى الانسان تخضعه لارادة الانسان وأعماله . إنّها روح تسمح بالوصول إلى أي شيء عن أي طريق كان ، والهيمنة على كل شيء يهواه الانسان ويتمناه لنفسه ولمصلحته . إنّه منهج لا يختلف بشيء عن الاستبداد الملوكي الذي ساد خلال الأعصار الماضية ، وتحول الآن إلى اجتماع مدني([4]) .
باختصار ، لنا أن نقول أنّ الركون إلى الأحكام الإلهية والقبول بضرورة تطبيقها ، تجعل الحكومة الدينية أعمق تأثيراً من سائر الحكومات ، باعتبار أنها تفيد في مقام ادارة الشؤون الانسانية ، من معارف متعالية على البشر . وطبعاً لا ننسى أن هذا الأمر يعد من أصعب المشاريع على مستوى العمل ، ويحتاج إلى معرفة ووعي وامكانات كثيرة في شتى المجالات تخول الحكومة الدينية ايجاد مقدمات تسامي الانسان ، وتثمير مواهبه وتفجير طاقاته .
الموضوع الآخر الذي لا بدّ من الافصاح عنه في هذه العجالة هو الرؤية التوحيدية في الحكومة الدينية ، والتي تسفر عن انجاز ابداعات وابتكارات مذهلة باعتبارها نموذجاً ورمزاً لعبودية الله والتحرر من الرضوخ لهيمنة الآخرين . إن نعمة الحرية والانعتاق من فكرة الاستسلام للآخرين ، تحقق للانسان عزته وكرامته ، وتجعله قادراً على عدم الضياع وسط تكثرات العالم ، والسير في طريق السعي لادراك الوحدة في عالم الوجود وتعزيز الرؤية التوحيدية . وهكذا تتبلور روح مناؤة التكبر ومجابهة المستكبرين كصفة ايجابية على شكل ملكة دائمة في السلوك الفردي والاجتماعي والحكومي . وكمثال من السلوك الحكومى ، تمكن الاشارة للالتزام بقاعدة نفي السبيل([5]) .
إن أهمية هذه الرؤية تتضح أكثر إذا ما استحضرنا طبيعة التشتت والفصام السياسي في عصرنا الحاضر ، والتعدديات الكاذبة التي تشيع في العالم اليوم بناءً على أنانيات البشر ومحوريتهم في تنظيم المطاليب والقيم ، وتتسبب في الكثير من المصائب والويلات . يثير المفكر الفرنسي ميشيل فوكو نقطة ملفتة في خصوص ماهية السياسة المعاصرة ، بمقدورها تعميق وعينا لهذه الموضوعة أكثر . فهو يرى أنّ «السياسة ليست ذلك الشيء الذي تحاول هي اظهاره والايحاء به ، اي تبلور ارادة عامة ،ا نّما السياسة لا يمكنها العيش والتنفس إلاّ في مناخ تكون فيه تلك الارادة مبضّعة ممزقة مترددة تائهة ، وغير واضحة حتى في عينيها هي»([6]) .
وعليه ، كلّما تضاعف الوعي التوحيدي للعالم ، ازدادت السياسة انسانيةً ، وبمقدار ما تخفت الرؤية التوحيدية ، يزداد التشتت والتمزق والتناشز ، وهذا واقع نشاهده اليوم أمام أعيننا . وبايجاز يتسنى القول بما أنّ الحكومة الدينية تعترف رسمياً بحضور الدين وقيوده ، فهي تتمتع بصلاحية وامكانية توفيق أعلى من الحكومات غير الدينية الجانحة إلى إقصاء الدين عن المسرح الاجتماعي . بيد أن هذه المهمة تستلزم بطبعها كوادرها وامكاناتها الخاصة حتى يتسنى استيعابها والعمل بها . وإذن ، تربية الانسان هي المتغير الأصلي في نجاح وتحقق الحكومة الدينية .
الهوامش:
[1] ـ آلبرت هيرشمن ، الأهواء النفسية والمصالح ، ترجمة : محمد مالجو ، منشورات شيرازه ، ط1 ، 2000 ، ص15 .
[2] ـ م س ، ص150 .
[3] ـ د. أبوالفضل قاضي ، م س ، ص418 نقلاً عن الوحي أو الشعور الغامض لآية الله العلاّمة الطباطبائي ، ص176 ، منشورات دار الفكر ـ قم .
[4] ـ م س .
[5] ـ (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) سورة النساء/ الآية 141 .
[6] ـ ميشيل فوكو ، بماذا يحلم الايرانيون ؟ ترجمة : حسين معصومي همداني ، منشورات هرمس ، ط2 ، 1998 ، ص46 .
التدين بعد الثورة الاسلامية (1)
مذكرات معاق- الحركة
بينوکيو و التماسيح البعثية
الجنون حتي القيامة
مذکرات الاحرار-نحن منافق
مذکرات الاحرار- القرد الكبير
مذکرات -الجسر