الزهد والتحرّر
ومن فلسفة الزهد: الحرية والتحرّر ، فإن بين الزهد والحرية روابط قديمة وقويمة .
إن الحاجة والافتقار ميزة ظاهرة ، والاستغناء ميزة الحرية .
إن أقوى الآمال في حياة الأحرار هو وضع الأثقال عن كاهلهم ، والخفة والنشاط في الحركة والتنقل . وإنما يجعل هؤلاء زادهم الزهد والقناعة ليقللوا بذلك من حوائجهم المادية فيطلقوا أنفسهم من أسر الأشياء والأشخاص وقيودهما .
إن الحياة المادية للإنسان - كسائر الحيوانات الأخرى - تحتاج إلى سلسلة من الأمور الطبيعية والضرورية التي لابدّ منها ، كالهواء للتنفس والأرض للسكن والطعام للأكل والماء للشرب والثوب للستر ، فالإنسان لا يستطيع أن يكتفي بذاته - على حد تعبير الحكماء - عن هذه الأمور وأمور أخرى كالنور والحرارة ، ولا أن يتحرر من قيودها تحرراً مطلقاً .
ولكن ، هناك سلسلة من الحاجات ليست طبيعية ولا ضرورية ، وإنما حملت على الإنسان على مدى تاريخه الطويل من قبله هو أو من العوامل التاريخية والاجتماعية الأخرى ، وقد كانت عاملاً فعالاً في الحد من حريته شيئاً فشيئاً .
والأمور التي تحمل على الإنسان من الخارج بصورة قسرية للاضطرار السياسي مثلاً ، ليست في خطرها عليه كالأمور النفسية التي تعمل على أن تجرّه من إطاره الداخلي إلى إطارها الغريب ، وعلى هذا فإن أخطر القيود على الإنسان إنما هو هذه القيود التي تعزله عن نفسه .
وترى الفلسفة الميكانيكية لهذه العوامل التي تؤدي إلى عجز الإنسان وضعفه: أن الإنسان يحاول - من جهة - أن يكسب حياته صفاءً وبهاءً ورونقاً وجلالاً ، فيقبل على التجمل والتنعم بكماليات الحياة ، ولأجل الحصول على القوة والقدرة يقبل على تملك الأشياء .
ومن جهة أخرى يعتاد على وسائل للتنعم والتجمل والقوة والقدرة شيئاً فشيئاً ، ويعجب بها فيعشقها ، وتنشأ بينه وبينها روابط خفية دقيقة تشده إليها ، فيصبح ذليلاً لها عاجزاً أمامها .
وحينئذ يتحول الشيء الذي كان مادة لصفائه ورونقه إلى سبب لذهاب رونقه وصفائه ، والذي كان وسيلة لقدرته وقوته إلى سبب لضعفه وعجزه في دخيلة نفسه . فيصبح لها كالعبد المدين لمولاه لا يقدر أمامه على شيء .
إن تقيد أي إنسان بالزهد - إن صح التعبير بالتقيد - تابع من أصول فطرية ، فإن الإنسان بطبعه يميل إلى تملك الثروة والاستفادة من متع الحياة ، ولكنه حينما يرى أن هذه الأشياء كلما منحته القدرة على الحياة في الظاهر سلبته القدرة الإرادية ، في واقع الحال على نفس المدى ، وجعلته: ( عبداً لها ولمن في يده شيء منها ) فهو يثور - حينما يرى ذلك - على هذه العبودية . ويصطلح على هذه الثورة بالزهد .
وإنما أصبح الإمام علي ( عليه السلام ) حراً بمعنى الكلمة لأنه كان زاهداً بمعنى الكلمة ، وكان ( عليه السلام ) كثيراً ما يعبر في خطبه في نهج البلاغة عن الزهد بالحرية ، وعن الشره والنهم بالعبودية .
يقول ( عليه السلام ) في بعض كلماته القصار: ( الطمع رقٌّ مؤبّد ) .
ويصف زهد عيسى ابن مريم فيقول: ( . . ولا طمع يذله ) .
ويقول ( عليه السلام ): ( الدنيا دار ممر لا دار مقر ، والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقته ، ورجل اشترى نفسه فأعتقته ) .
وأصرح من الجميع كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري:
( . . . إليك عني يا دنيا! فحبلك على غاربك! قد انسللتُ من مخالبك ، وأفلت من حبائلك! اعزبي عني ، فوالله لا أذل فتستذليني ولا أسلس فتقوديني ) .
نعم ، إن زهد الإمام ( عليه السلام ) ثورة على الذل في اللذة ، وعلى الضعف في الشهرة ، وعصيان على عبودية الدنيا ، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حياً!
عظمة النفس و الغيرة في نهج البلاغة
الفصاحة والجمال في نهج البلاغة
بلاغة الإمام علي عليه السلام
عقله الجبار ينظم عاطفته
ماهي التقوى؟
الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية
التغيير الفردي والاجتماعي في نهج البلاغة