الدين والسياسة وكفاءة الحكومة الدينية (1)
ينبغي اعتبار موضوع كفاءة النظام السياسي وفاعليته من جملة المواضيع الغامضة المضببة المثيرة للجدل بدرجة كبيرة . ذلك إنّ الحكم على الكفاءة أو عدمها يعزى غالباً إلى التجارب والمطالبات ومشاعر الأفراد والمحللين ، ولا يتسنى أن يكون له مصداق بين الأنظمة ، بمعنى أن من غير الممكن أن يكون النظام السياسي غير كفوء مطلقاً ، رغم ما قد ينطوي عليه من نواقص وثغرات في مختلف أجزائه . وإذن ، بصرف النظر عن تطبيق موضوع الكفاءة على حكومة دينية أو غير دينية ، ينبغي أن لا ننسى أنّ الأحوال الموضوعية تصنف بين طرفين متناقضين هما الكفاءة المطلقة وعدم الكفاءة المطلق ، وما يمكن التداول بشأنه ومناقشته هو الاتجاه المستقبلي الذي يمكن التكهن به في ضوء معطيات الأنشطة الحالية . وإذن فالكفاءة مفهوم نسبي يلفه الغموض إلى حد كبير . ويعزى غموضه بالدرجة الأولى إلى المعايير والمناطات المستخدمة في اصدار الأحكام . وبالتالي فإن أي تحليل يرتكز إلى كيفية الوضع القائم من حيث الكفاءة أو عدم الكفاءة سيغوص في لجة عاتية من الأحكام المسبقة ، تجعل نقده وتشخيص سلامته أو سقمه متجهاً قبل كل شيء صوب التصورات الخفية التي تخيم بظلالها على رؤية المحلل ، وبعد ذلك فقط يتسنى فحص الأدلة بدقة وتأن .
نسوق هنا مثالاً من أجل ايضاح الفكرة . نشرت الاكونوميست في السادس من نيسان 1996 تقريراً اكتنف تصورات جديدة حول التعليم والعمالة ، أوردت فيه أمثلة من بلدان الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا وألمانيا . ويعد المثال المطروح حول الولايات المتحدة نموذجاً مناسباً للدخول إلى اشكالية الكفاءة وتحديد معاييرها ومصاديقها . بحسب تقرير الاكونوميست فإن «وزارة العمل في الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك ميزانية قدرها خمسة مليارات دولار للتعليم الحكومي . يقول القائمون على التعليم في أمريكا في تقييمهم الآثار الناتجة عن رصد هذا الرقم الكبير على الكفاءة العملية للمتعلمين ، أنّ : الصفر رقم مناسب ! ويقول جيمز هكمان من جامعة شيكاغوورئيس قسم باحثي التعليم الحكومي في أمريكا أن رصد هذا المبلغ الكبير لتعليم الشباب ، لم يكن له أي تأثير في الشباب ما دون الحادية والعشرين . بل أدّى إلى خسرانهم العائدات التي كان بوسعهم أن يكسبوها عن طريق مزاولة الأعمال غير التخصصية طوال الفترة التي أمضوها في التعلّم»([1]) .
في ضوء هذه المعطيات ، يتضح التباس مفهوم الكفاءة أكثر من السابق ، خصوصاً إذا اعتبر الصفر رقماً مناسباً . وعلى ذلك يمكن السؤال : ما هي حقاً الكفاءة والفاعلية ، وما هو معناها ؟ هل للكفاءة مفهوم محدد بتخوم ومعايير ومناطات واضحة ؟
كما يجوز الاشارة إلى عدم التناسق العملي بين «الخطط» و «النتائج» ، فالنتائج لا تتطابق ولا تقترب دائماً من الأهداف المرسومة مسبقاً في الخطط . وبهذا لو افترضنا أن الخطط توضع لبلوغ أهداف معينة ، لا يمكن أن نعزو التباين بين النتائج والأهداف إلى مجرد ثغرات ونواقص تضمنتها الخطط ، بل إن هذا الأمر يلفت انتباهنا إلى متغيرات أخرى لا نعرفها أو إننا غفلنا عنها ، ولا بدّ من التحري لاكتشافها وأخذها بنظر الاعتبار . وحيث إنّ «النتائج» من أوضح المعايير لتقييم الكفاءة والفاعلية يتسنى الخلوص إلى هشاشة وضعف تحليلات من هذا القبيل تتسم باحادية البعد والنظرة .
تبين لحدّ الآن إجمالاً ، إن مناقشة الكفاءة تستدعي ملاحظة نقطتين :
1 ـ نسبية مفهوم الكفاءة .
2 ـ غموض مفهوم الكفاءة .
وبعبارة أخرى ، فإنّ الكفاءة شأنها شأن مفاهيم مثل «الأمن» و «القوة» مع إنّها تفتقر لتبلور موضوعي خارجي ، بيد أن لها وجوداً لا سبيل إلى انكاره ، ولا يتسنى القول إن مناقشة كفاءة أو عدم كفاءة أحد أنواع الأنظمة السياسية مناقشة عقيمة غير مجدية . ولكن من الضروري التفطن فضلاً عن النقطتين أعلاه ، إلى عامل آخر هو مجموعة الظروف وطبيعة الزمن التي تكتنف في داخلها موضوع النقاش . ولما كان هذا الموضوع مما لا يمكن معالجته في الفراغ إذن لا مندوحة للتقييم من مقارنة تأخذنا إلى مديات أعمق في مفهوم الكفاءة . ففي المقارنة نحتاج إلى معرفة دقيقة وكاملة للمتغيرات التي نجترح تقييمها ومقارنتها ، ولمعنى ومكانة كل واحدة منها في ظروفها الخاصة . وبالتالي ، فإن أي استنتاج نهائي حول كفاءة نوع معين من أنظمة الحكم لن يبدو مستساغاً إلاّ إذا تحاشى أوّلاً اصدار أحكام مطلقة حول كفاءة النظام أو عدم كفاءته ، وثانياً بما أن هذا المفهوم ناجم عن رؤية تخصصية للقضايا الاجتماعية بصيغتها العامة ، لذلك يجب أن يتركز على حالات خاصة محددة .
في ضوء ما ذكرناه ، فإن كفاءة الحكومة الدينية مقارنة بسائر الحكومات غير الدينية ، اشكالية لا يتاح لها من الناحية النظرية أن تتخطى سلسلة من الكليات العامة . ولكن في خصوص «الجمهورية الاسلامية» كنظام سياسي سعى أن يبني دستوره وممارساته على أساس قوانين الدين الاسلامي والمذهب الشيعي ، يتسنى الاشارة إلى بعض الحالات بنحو أكثر تحديداً ، بيد أن تفصيل ذلك يستلزم دراسات ميدانية موسعة على شتى الصعد ، وتشخيص المشكلات بصورتها التفصيلية الدقيقة . ومثال ذلك ، التحقيق في النزعات العامة أو الخاصة في سلوك موظفي الدوائر ، أو غيرها من الحالات والموضوعات المحددة الأخرى التي يمكن أن تتمخض عن نتائج معينة واضحة لا لبس فيها ، ما يضفي على التحقيق صبغة تطبيقية . وبغير ذلك فإن أي مناقشة لموضوع الكفاءة لن تكون مجدية مفيدة ، إذ أنّ الهدف الأصلي من التداول في قضية الكفاءة هو تشخيص الثغرات وردمها ، وليس الغاءً شاملاً للنظام بمفهومه السوسيولوجي .
ما يمكن الالماح إليه نظرياً وبصورة موجزة طبعاً ، هو أنّ الحكومة الدينية (الاسلامية) تلتزم شروطاً وقواعد رغم انّها مطلوبة لأجل الانسان ، غير أنّ الانسان ليس هو مصدرها وصانعها . النقطة الرئيسة في هذا المضمار هي وجود «الأحكام» وضرورة تطبيقها ، الأمر الذي يكشف المنحى الانثروبولوجي في الدين الاسلامي . لقد عالج جان جاك روسو ضرورة وجود مشرع متعالي على الانسان بدقة مميزة في كتابه المعروف «العقد الاجتماعي» :
لأجل اكتشاف أفضل القوانين النافعة للأمم لا بدّ من عقل أرقى يرصد ويرى جميع الشهوات الانسانية لكنه لا يشعر بأي شيء ، ولا تكون له أية صلة بالطبيعة ، إلاّ أنه يعرفها حق المعرفة . ولا تكون سعادته مرتبطة بنا بيد أنه على استعداد لمساعدتنا من أجل بلوغ السعادة . وأخيراً يجب أن يكتفي بمفاخر يعلن عنها بمرور الزمن ، أي أنه يقدم الخدمات خلال قرن من الزمان ، ويحصد النتائج في القرن التالي([2]) .
الهوامش:
[1] ـ الاكونوميست «تصورات جديدة حول التعليم والعمالة» مجلة گزارش ، السنة السادس ، أيار 1996 ، ص54 .
[2] ـ جان جاك روسو ، العقد الاجتماعي ، ترجمة غلام حسين زيرك زاده ، منشورات أديب ، ط1 ، 1989 ، ص81 .
التدين بعد الثورة الاسلامية (1)
مذكرات معاق- الحركة
بينوکيو و التماسيح البعثية
الجنون حتي القيامة
مذکرات الاحرار-نحن منافق
مذکرات الاحرار- القرد الكبير
مذکرات -الجسر