• عدد المراجعات :
  • 1085
  • 8/14/2011
  • تاريخ :

هوية المسرح العربي

مسرح

مما لا شكّ فيه أنّ المسرح ظاهرة إجتماعية، وليدة إحتياج جمعي يتطلب حدوث هذه الظاهرة ويطورها في الإتجاه الذي يريده، فلا أحد يستطيع أن يفرض المسرح على مجتمع ليس بحاجة إليه، ولا تتفق رؤيته للحياة مع رؤية هذا الفن الجمعي الإبداع والتلقي، فهكذا كان الحال مع الفراعين، حينما أرادوا من المسرح أن يتوقف عند حدوث الطقس الديني الذي يحتفل فيه بالإله المحتفى به، ويكتفى فيه بتقديم القرابين وطرح الموعظة الحسنة، بنفس المفهوم الكنسي الذي حصر المسرح في العصر الأوربي الوسيط داخل الوعظ الأخلاقي، أو حتى بذات الفهم الشيعي لإحتفالات كربلاء، الذي يصبح للفعل الحي القدح المعلى على الإيهام به، وكذلك لم يعرف العرب المسرح حتى القرن التاسع عشر، لأنّه لم يكن مؤسساً داخل رؤيتهم الأيديولوجية في الحياة، ولم يكن بالتالي ثمّة إحتياج إليه، فالفلسفة الدينية تحتم الخضوع للإله الواحد القهار، والفكر السياسي يقرر ضرورة الإنصياع لرأي الحاكم الأوحد، سواء أقام في دمشق أو بغداد أو اسطنبول، والتفكير في مناقشة السلطة الدينية أو الزمنية، يعد خروجاً على الناموس، وهرطقة وزندقة ومخالفة لرأي الأُمّة.

لذلك، لم تكن ترجمة أبو بشر متى بن يوسف القنائي لكتاب "فن الشعر" لأرسطو في أوائل القرن العاشر الميلادي، فقط مجرد ترجمة ركيكة ومغلوطة ناتجة عن الترجمة المعنعنة، حيث نقل ابن يوسف هذا كتاب أرسطو إلى العربية عن طريق لغة وسيطة هي اللغة السريانية، وإنما لأنّ المجتمع العربي لم يكن يملك وقتذاك فناً مسرحياً يتوافق مع المصطلح الدرامي الذي تحدث أرسطو عنه، كما أنّ المجتمع الأوربي المنقول عند هذا النص الأرسطي، كان قد غاب المسرح عن ساحاته الدنيوية، منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وتسيد الروح المسيحي الأوحد والمتقشف في زمن العصور المظلمة، ومع ذلك فمع حلول عصر النهضة، وسعي أوربا لإحياء إبداعات الأمس البعيد، وصياغة إبداعات جديدة منسوخة ومتجاوزة الأنماط القديمة، لم يفكر العرب المحتكون بالوجود والتجارة مع أوربا الجنوبية، في نقل هذا الفن الذي لا يتوافق مع فن الشعر وأغراضه المحصورة في الحماسة والهجاء والمديح والرثاء والغزل وغيرها، والمتوقع في الصوت الواحد السابح في الفلوات لإقتناص الكلم الباهر.

ورغم أنّ العرب عاشوا في إسبانيا حتى خرجوا منها رسمياً عام 1492م، مع تألق عصر النهضة وإنتشار المسرح في ربوع الأندلس وقتذاك، وظهور أوّل مسرحية (لاثليستينا)، مما يعني أنّ المسرح دينياً وأخلاقياً كان موجوداً زمن وجود العرب بإسبانيا، فإنهم أبوا أن يحملوا مع خروجهم ذلك الفن المستعادة ولادته بأوربا، وحتى عندما انتقلت بعض الفرق الإسبانية لتقديم عروضها بأرض تونس للموريسكيين الذين خرجوا من الجزيرة الأيبيرية في أوائل العقد الثاني من القرن السابع عشر، واستقر جانب كبير منها بالأراضي المغاربية، لم ينتبه العرب لهذا الفن المتعدد الصوت والرأي، حتى بدأت قبضة الخلافة العثمانية تضعف، والتقت رغبات الإستقلال مع الدعوات القومية التي اجتاحت العالمين القديم والجديد أواخر القرن الثامن عشر، وتحرر العرب من الشعور الديني في صراعهم مع العدو المحتل، فولد المسرح من حدة الصراع بين الأنا والآخر.

وفي زمن الإنسلاخ عن الرحم العثماني، والحبو على أرض الإستقلال الذاتي/ القومي، قدم العرب المسرح بدائياً وبسيطاً ومختلطاً بالإحتفاليات الشعبية السائدة في الحياة اليومية الجماهيرية، والملاهي الليلية التي يهفو إليها الأثرياء الجد وجنود المحتل، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثمّ جاء القرن الأخير في الألفية الثانية، ليجد الواقع الوطني يمور بالحركة ضد الإحتلال الفرنسي والإنجليزي والإسباني، والإيطالي، وليجد الواقع الفكري يمتلئ بدعوات البحث عن الهوية، حيث تختلط الإسلامية بالفرعونية بالبحر متوسطية، وليجد الواقع السياسي يبحث عن الديمقراطية والتعددية الحزبية، وليجد الواقع الإجتماعي منشطراً حول قضايا سفور المرأة والتعليم بين الدين والعلم، وليجد المسرح ذاته متذبذباً بين جمهور يعشق الطرف ويفرض على فرقتي سليمان القرداحي وسلامة حجازي تقديم الفواصل الغنائية بين الفصول التراجيدية، وجمهور أجنبي ومتفرنج لا يجيد اللغة العربية وينشد من المسرح نمطاً لغوياً جديداً يمزح أساساً بين اللغتين العربية والفرنسية، مقدماً ما يسمى بـ"الفرانكو أراب" في كباريهات عماد الدين، وجمهور يبحث عن المتعة في الضحك، مقدماً له الفودفيلات الفرنسية والمقتبسة عنها والزاخر بها مسرحا الريحاني والكسار، فضلاً عن جمهور قليل يعشق الجدية ويبحث عن العروض العربية المشابهة لعروض الفرق المستجلبة، فيقبل على تراجيديات جورج أبيض وعروض الأوبرا الغربية بمستوياتها الإجتماعية العليا، تاركاً بقية شرائحه الطبقية منغمسة في ميلودرامات يوسف وهبي التي انتهزت فرصة المساحة الفارغة التي تركتها ثورة 19 الجماهيرية في مصر، بعد تقلص نتائجها، وتحول ثوارها إلى مسؤولين حكوميين، مما خلق في النفس شعوراً بالإحباط، فسادت الميلودراما الإجتماعية النقدية الزاعقة، جنباً إلى جنب المسرحية الإنتقادية الساخرة.

- التجريب ظاهرة القرن:

بدأ القرن المنصرم تجريبياً، وانتهى تجريبياً، فقد شرع في أوائله بالتجريب على كتابة النص المسرحي العربي، المعتمد على الكلمة الراقية، والتي هي إحدى دعائم اللغة العربية، وأحد مقومات العقل العربي، فظهر إبراهيم رمزي ومحمّد تيمور وتوفيق الحكيم وأحمد شوقي وعمر أبوريشة ليكتبوا مسرحاً يتراوح بين "المسرحة" الفنية و"الأدبية" اللغوية، ويستهدف التعبير عن الموروثات العربية، شعبية ورسمية، كمقدمة لتعريب هذا الفن المستورد، غير أنّ هذا الكاتب الجديد وجد نفسه يبدع في أرض غير ذي جذر، فتراثه الفعلي لا يمتلك تجارب مسرحية مشابهة من قريب أو بعيد مع ما يبدعه، ومخزونه المعرفي يحتوي على أعمال لشكسبير وموليير وحتى فيدو لا علاقة حميمية لها بالواقع الذي يعيشه، والمقتبسات السابقة والمتزامنة معه تتحايل لتضع الخمر المستورد في آنية مستوردة أيضاً معاد طلاؤها بطلاء محلى، ومن ثمّ تظل الإشكالية قائمة.

كانت بالفعل أولى إشكاليات التأليف أمام كاتب المسرح العربي في بدايات القرن العشرين، هي كيفية تعريب المتن الغربي ثمّ صياغة مضمون عربي خالص في بنية درامية غربية، والمضمون هنا ليس مجرد الفكر المصبوب في وعاء قابل لإستقبال أي مضمون، وإنما هو فكر متعضون في بنية جمالية تحتوي على الحكاية والشخصيات وتطورها وتغير مصائرها بفعل حدث درامي ينتهي إلى غير ما بدأ به، أي اكتشف الكاتب الجديد أنّ المسرح ليس بحكاية مصوغة في قالب حواري، وإنما هو رؤية متكاملة، ديموقراطية الفعل، ديموقراطية الصياغة، ديموقراطية التلقي، ولذا كان لابدّ وأن يتعثر هذا المسرح الوليد في مسيرته، حتى يحقق المجتمع تحرره الكامل، ويسعى بالفعل لتطبيق الديموقراطية، وتتجلى ويسعى بالفعل لتطبيق الديموقراطية، وتتجلى بذلك تلك العلاقة الجدلية بين الفن والواقع، فقد يسبق أحدهما الآخر، لكن أياً منهما لا يمكنه الإنفصال كلية عن حركة الآخر.

وعليه ترك الكاتب الجاد المسرح الجماهيري لأهله، وتعلق بحبال الأدب، فاعتزل الحكيم الناس بفنه الرفيع في برجه العاجي، وابتعد عزيز أباظة بشعره المهجور عن المسرح الحي بكتابات من مأثور الكلم، وانتظر المسرح طويلاً حتى ظهور الكاتب المعبر عن نبض الثورة الحي في أرجاء الوطن العربي الكبير، وكان نعمان عاشور ومسرحيته "الناس اللي تحت"، والتي قدمتها لأوّل مرّة في أغسطس 1956 بمدينة بورسعيد فرقة كونت نفسها خارج نطاق المؤسسات الرسمية، هي فرقة المسرح الحر، والتي تكونت من مجموعة من شباب "معهد التمثيل العربي" الذي أنشئ قبل ذلك بسنوات نتيجة لإحتياج فكري وفني وإجتماعي "عام 1931 ثمّ توقف بعد عام ثمّ عاد عام 1944 ليستمر حتى اليوم"، ووجد بعض من شبابه الخريجين أنّه مبعد عن أحضان الفرقة المصرية القومية، فكون فرقته الحرة ليبحث مع جماهير وطنه عن "مصر جديدة"، غير مصر المتهالكة، مصر متخيلة، كنوع من اليوتوبيا المؤمل تحقيقها في الغد المنظور.

- اليوتوبيا المجهضة:

تعد اليوتوبيا الإشكالية الثانية التي طرحت نفسها على الكاتب العربي، فالثورة العربية تمتد من المحيط إلى الخليج، وأغاني التمجيد للمارد العربي تصدح عبر الأثير، وأحلام التغيير تجاوز الواقع المتردي بالظافر والقاهر توزعها الصحف يمنة ويسرة، هذا في الوقت الذي تعتقل فيه القوى المؤمنة بالتغيير، وتسلم الثورة للقوى المضادة لها، وتراقب أجهزة الأمن كل طيف يمر بخيال متمرد أو صاحب رأي مخالف، فيتصدع الواقع. أمّا المسرح فكيف له أن يعبر عن الرأي الآخر، وهو مصادر على أرض الواقع، من هنا جاء اللجوء إلى التراث فراراً من سيف المعز، ليقول ألفريد فرج في مسرحيته "علي جناح التبريزي" إنّ القافلة المنتظرة بالخير، هي قافلة وهمية، كالمائدة الوهمية المقدمة في مفتتح نفس المسرحية للفقراء، كما لجأ المسرح إلى الدراما السياسية والتعبيرية، دون أن ينفصل لحظة عن الدراما الواقعية ذات التوجه النقدي، حتى وهو يميل لمسايرة الإتجاهات الغربية المعاصرة له، مثل مسرح العبث، جاءت أعماله لتناقش قضايا إجتماعية، وتبحث عن جذور للعبث في التراث العربي، واتسق ذلك التفتيش في التراث العربي مع الرغبة العارمة في صياغة هوية عربية، تتواءم من جهة مع الدعوات السياسية لتحقيق أُمّة عربية متكاملة ذات قومية واحدة، كما تتناغم مع الدعوات الفكرية للبحث عن جذور عربية جماهيرية للمسرح العربي، ودعوات الكشف عن فنون الفرجة الشعبية في "قعدات السامر" المصرية، وإحتفاليات "البساط" و"الحلفة" المغربية، إلى جوار الأشكال الأراجوزية والظلية والسيركية، والكتابات المقامية وغيرها من الأساليب الماقبل مسرحية والأشكال المسرحية الجنينية التي اغتالها الواقع الأحادي الصوت حتى أواسط القرن التاسع عشر.

كان الربع الأوّل من القرن العشرين هو زمن تألق المغني "الصييت"، فتسيد الطرب ساحة المسرح، وصيغ العرض المسرحي لصالح اللحن الشادي والصوت الغريد لسلامة حجازي وسيد درويش، وكان الربع الثاني من ذاك القرن هو زمن هيمنة الممثل/ النجم، صاحب الفرقة ومؤلف ومخرج عروضها، فخضع النص المؤلف لطبيعة وقدرات هذا المثل، من أمثال جورج أبيض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار، ثمّ جاء الربع الثاني لينتزع الكاتب المسرحي حقه في أن يذهب المتلقي إلى المسرح سعياً لمشاهدة مسرحية له، ليذهب إلى المكتبات لشراء نصه المنشور لقراءته، فلأول مرّة يصبح للنص الدرامي لسعد الدين وهبة ورشاد رشدي ونعمان عاشور وميخائيل رومان وغيرهم سلسلة تصدره تباعاً، وعرفت المكتبات العربية نصوص ممدوح عدوان ورياض عصمت ومصطفى الحلاج وسعدالله ونوس ومعين بسيسو ويوسف العاني وصقر الرشود وعبدالعزيز السريع ومصطفى الفارسي وعزّالدين مدني وغيرهم، وانتشرت المجلات المسرحية المتخصصة، جنباً إلى جنب سلسلة خاصة لنشر النصوص العالمية المترجمة، بدأت بالقاهرة في أواسط الستينيات، واستكملت الكويت المسيرة منذ عام 1969، حتى تضاءلت أخيراً قيمة هذا النص الدرامي، أو رئي أنها تضاءلت بعد عقدين كاملين من الزمان، فتحولت سلسلة "من المسرح العالمي" في نهاية عام 1998 إلى سلسلة عامة باسم "إبداعات عالمية"، تهتم بالنص المسرحي ضمن إهتمامات أخرى روائية وقصصية وشعرية وأدب رحلات.

- النقد يشوه وجه المسرح:

لقد جاء الربع الأخير من هذا القرن، وقد هيئت الأرض لضرب الكلمة المنطوقة، وسحب البساط من دراما العقل والوجدان الحي، وهجرت السياسة رموز الفكر خارج أوطانهم، وجذبت المسلسلات التلفزيونية الملونة والملينة مشاهد الدراما الإجتماعية من صالات المسرح، وراح النقد يدشن مقولات الحداثة وما بعدها، ويدعو للمسرح الجسدي والحركي، ويلغي أي علاقة بين الفن والواقع، مكتفياً بالتأويل السيميولوجي للعرض المسرحي، ومعلياً من دور المخرج على حساب الكاتب المجبر على التواري، ومن هنا نشأت الإشكالية الجديدة أمام المسرح العربي، فكيف يمكن له التعبير الحقيقي عن متغيّرات واقعه والكلمة مطاردة برقابة نقدية، والتجريب ومهرجاناته الدولية مفروضان بأمر المؤسسات الرسمية، والعولمة تضغط بنمطها الغربي الأوحد على الخصوصية العربية، وسلطة الجسد فاقت سلطة الفكر، والإبداع الجاد للمسرح أصبح، كما هو في جميع المجالات الأخرى من قصصية وشعرية وتشكيلية وغيرها، نخبوياً ينزوي في القاعات الصغرى، يثرثر صغار المثقفين حوله، بينما يكتفي النقاد بالأحاديث الملغزة عنه في مجلات متخصصة لا تبيع أكثر من ألفي نسخة يتيمة على إمتداد الوطن العربي بأكلمه، تاركين المسرح التجاري الرخيص يستولي على جمهوره القديم، ويخلق له جمهوراً جديداً متسقاً مع ما يقدمه ويطلبه.

لقد ولد المسرح العربي في بداية القرن العشرين تجريبياً، كما أشرنا من قبل، وعاش عقوداً طويلة يعاني التجريب دون أن يصل لمرفأ آمن، وهاهو اليوم يحتضر بعد أن أجبر على أن يعود إلى التجريب الشكلي والإبتعاد عن جماهيره، وفقدان قيمة الكلمة المعبرة، والضياع في صخب المسرح الصوتي، وزحام المسرح الحركي، وبالونات المسرح التجريبي المفرقعة، والتي أبعدت الأبصار والعقول عن عروض متميّزة في مهرجان القاهرة الدولي التجريبي الأخير، مثل عرض "ميديا" المتميّز لفرقة وزارة الثقافة الأردنية، والذي وضع على هامش المهرجان، لأنّ اللجنة المنوط بها اختيار العروض المتسابقة، مكونة من إنجليزي وفرنسي وإسباني، ويغيب عنها أي عربي قادر على أن يرى في المسرح العربي تعبيراً صادقاً عن هموم أُمّة، وكلمة عربية خالصة ومخلصة لأحلام هذا الشعب.

هل يمكن حقاً إنقاذ المسرح العربي من وهدته الحالية؟

ذلك هو السؤال الملح والمنوط بصناع المسرح المؤمنين برسالته التنويرية والتغييرية الإجابة العملية عنه، فالصمت تمدد وأصبح مريباً، والصبر تبدد ولا محالة من الفعل العائد لنبع الجماهير، والمعيد المسرح لجماهيره، فمثلما نريد المسرح يكون.

الدكتور حسن عطية ،مجلة العربي/ العدد 493


طــــــه حســـــين عميد الأدب العربي

براعة اللغة العربية

ألمانيا تتمسك بنفرتيتي

طيبة تتحول إلى متحف مفتوح

مقابر منحوتة في الصخر

عودة توت عنخ آمون من نيويورك

العثور على تمثال بطليموس

 

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)