مناظرة الشيخ المفيد مع بعض فقهاء العامّة في حكم الإجتهاد والتصويب
قال الشيخ الكراجكي ـ عليه الرحمة ـ في كتابه كنز الفوائد : جرى لشيخنا المفيد أبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان ـ رضوان الله عليه ـ مع بعض خصومه في قولهم : « إن كل مجتهد مصيب » .
قال شيخنا المفيد (رضي الله عنه) : كنت أقبلت في مجلس على جماعة من متفقهة العامة ، فقلت لهم : إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ الاختلاف ، يحظر عليكم المناظرة ، ويمنعكم من الفحص والمباحثة ، واجتماعكم على المناظرة يناقض اُصولكم في الاجتهاد ، وتسويغ الاختلاف .
فإما أن تكونوا مع حكم أصولكم ، فيجب أن ترفعوا النظر فيما بينكم ، وتلزموا الصمت .
وإما أن تختاروا المناظرة ، وتؤثروها على المتاركة ، فيجب أن تهجروا القول بالاجتهاد ، وتتركوا مذاهبكم في الرأي ، وجواز الاختلاف ، ولا بد من ذلك ما أنصفتم وعرفتم طريق الاستدلال .
فقال أحد القوم : لِمَ زعمت أن الاَمر كما وصفت ، ومن أين وجب ذلك ؟
قال شيخنا رحمه الله : فقلت له : عليَّ البيان عن ذلك ، والبرهان عليه حتى لا (يحتج) على أحدٍ من العقلاء ، أليس من قولكم أن الله تعالى سوّغ خلقه(1) الاختلاف في الاَحكام للتوسعة عليهم ، ودفع الحرج عنهم رحمةً منه لهم ، ورفقاً بهم ، وأنه لو ألزمهم الاتفاق في الاَحكام ، وحظر عليهم الاختلاف لكان مضيقاً عليهم ، (معنتاً) لهم ، والله يتعالى عن ذلك ، حتى (أكّدتم) هذا المقال بما رويتموه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « اختلاف اُمتي رحمة »(2) ، وحملتم معنى هذا الكلام منه على وفاق ما ذهبتم إليه في تسويغ الاختلاف.
قال : بلى ، فما الذي يلزمنا على هذا المقال ؟
قال شيخنا رحمه الله : قلت له : فخبرني الآن عن موضع المناظرة ، أليس إنما هو التماس الموافقة ، ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال إلى موضع الحجة ، وتتغير له عن الاِقامة على ضد ما دلّ عليه البرهان ؟
قال : لا ، ليس هذا موضوع المناظرة ، وإنما موضوعها لاِقامة الحجة والاِبانة عن رجحان المقالة فقط.
قال الشيخ : فقلت له : وما الغرض في إقامة الحجّة والبرهان على الرجحان ، وما الذي يجرانه إلى ذلك ، والمعنى الملتمس به ، أهو تبعيد الخصم من موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حججها ، أم الدعوة إليها بذلك ، واللطف في الاجتذاب إليها به ؟؟
فإن قلت : إن الغرض للمحتج التبعيد عن قوله بإيضاح الحجة عليه ، والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه ؟ قلت : قولاً يرغب عنه كل عاقل ، ولا يحتاج معه لتهافته إلى كسره.
وإن قلت : إن الموضح عن مذهبه بالبرهان داعٍ إليه بذلك ، والدال عليه بالحجج البينات يجتذب بها إلى اعتقاده ضُرب بهذا القول ـ وهو الحقّ الذي لا شبهة فيه ـ إلى ما أردناه ، من أن موضوع المناظرة إنما هو للموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة .
وإذا كان ذلك كذلك ، فلو حصل الغرض في المناظرة وما أجرى بها عليه لارتفعت الرحمة ، وسقطت التوسعة ، وعدم الرفق من الله تعالى بعباده ، ووجب في(3) صفة العنت والتضييق ، وذلك ضلال من قائله ، فلا بد على أصلكم في الاختلاف من تحريم النظر والحِجاج ، وإلاّ فمتى صحّ ذلك ، وكان أولى من تركه فقد بطل قولكم في الاجتهاد ، وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.
فاعترض رجل آخر في ناحية المجلس فقال : ليس الغرض في المناظرة الدعوة إلى الاتفاق ، وإنما الغرض فيها إقامة الغرض من الاجتهاد .
فقال له الشيخ رحمه الله : هذا الكلام كلام صاحبك بعينه في معناه ، وأنتما جميعاً حائدان عن التحقيق والصواب ، وذلك أنه لا بد في فرض الاجتهاد من غرض ، ولا بد لفعل النظر من معقول .
فإن كان الغرض في أداء الفرض بالاجتهاد ، البيان عن موضع الرجحان ، فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق والاَيناس بالحجة إلى المقال.
وإن كان الغرض فيه التعمية والاِلغاز فذلك محال ، لوجود المناظر مجتهداً في البيان التحسين لمقاله بالترجيح له على قول خصمه في الصواب .
وإن كان معقول فعل النظر ومفهوم غرض صاحبه ، الذب عن نحلته والتنفير عن خلافها ، والتحسين لها ، والتقبيح لضدها ، والترجيح لها على غيرها ، وكنا نعلم ضرورة أن فاعل ذلك لا يفعله للتبعيد من قوله ، وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه ، فقد ثبت بما قلناه.
ولو كان الدال على قوله الموضح بالحجج عن صوابه ، المجتهد في تحسينه وتشييده ، غير قاصدٍ بذلك إلى الدعاء إليه ، ولا مزيد للاتفاق عليه ، لكان المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه ووهنه داعياً بذلك إلى اعتقاده ، ومرغباً به إلى المصير إليه .
ولو كان ذلك كذلك لكان إلزام الشيء مدحاً له ، والمدح له ذماً له ، والترغيب في الشيء ترهيباً عنه ، والترهيب عن الشيء ترغيباً فيه ، والاَمر به نهياً عنه ، والنهي عنه أمراً به ، والتحذير منه إيناساً به ، وهذا ما لا يذهب إليه سليم.
فبطل ذلك ما توهموه ، ووضح ما ذكرناه في تناقض نحلتهم على ما بيناه ، والله نسأل التوفيق .
قال شيخنا رحمه الله : ثم عدلت إلى صاحب المجلس فقلت له : لو سلم هؤلاء من المناقضة التي ذكرناها ـ ولن يسلموا أبداً من الله ـ لما سلموا من الخلاف على الله فيما أمر به ، والرد للنص في كتابه ، والخروج عن مفهوم أحكامه بما ذهبوا إليه من حسن الاختلاف وجوازه في الاَحكام ، قال : الله عزّ وجلّ : ( وَلا تَكونوا كَالَّذينَ تَفَرَّفوا وَاختَلفوا مِن بَعدِ مَا جاءَهمُ البيّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمُ عَذابُ عَظِمُ )(4).
فنهى الله تعالى نهياً عاماً ظاهراً ، وحذّر منه وزجر عنه ، وتوعد على فعله بالعقاب ، وهذا منافٍ لجواز الاختلاف ، وقال سبحانه : ( وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَميعاً وَلا تَفرَّقوا )(5) فنهى عن التفرّق ، وأمر الكافة بالاجتماع ، وهذا يبطل قول مسوغ الاختلاف ، وقال سبحانه : ( وَلا يَزالوُنَ مُختلفينَ ، إلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ )(6) ، فاستثنى المرحومين من المختلفين ، ودلّ على أن المختلفين قد خرجوا بالاختلاف عن الرحمة ، لاختصاص من خرج عن صفتهم بالرحمة ، ولولا ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل ، وهذا بيّن لمن تأمّله.
قال : صاحب المجلس : أرى هذا الكلام كلّه يتوجه على من قال : إن كل مجتهدٍ مصيب ، فما تقول فيمن قال : إن الحق في واحد ولم يسوغ الاختلاف ؟
قال الشيخ رحمه الله : فقلت له : القائل بأن الحق في واحد ، وإن كان مصيباً فيما قال على هذا المعنى خاصة ، فإنه يلزمه المناقضة بقوله : إن المخطىء للحقِّ معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه ، واعتماده في ذلك على أنه لو أوخذ به للحقه العنت والتضييق ، فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الاَوّلين فيما عليهم من المناقضة ، ولزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة ، وإن كان القائلون بإصابة المجتهدين الحقة ، يزيدون عليه في المناقضة وتهافت المقالة ، بقول الواحد لخصمه قد أخطأت الحكم ، مع شهادته له بصوابه فيما فعله مما به أخطأ الحكم عنده ، فهو شاهد بصوابه وخطئه في الاِصابة ، معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافه ، مأجور على مباينته ، وهذه مقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها ، وتكشف عن قبح باطنها بظاهرها ، وبالله التوفيق .
ذكروا أن هذا الكلام جرى في مجلس الشيخ أبي الفتح عبيدالله بن فارس قبل أن يتولى الوزارة(7).
المصادر:
(1) الظاهر : سوغ لخلقه ، والله العالم .
(2) كنز العمّال : ج10 ص 136 ح28686 ، تذكرة الموضوعات : ص 90 ، إتحاف السادة المتقين : ج1 ص 204 و 205.
(3) الظاهر : فيه .
(4) سورة آل عمران : الآية 105 .
(5) سورة آل عمران : الآية 103 .
(6) سورة هود : الآية 118 و 119 .
(7) كنز الفوائد للكراجكي : ج2 ص 210 ـ 214 .
مناظرة السيد محمد تقي الحكيم مع بعض علماء الأزهر في حكم
مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض أهل السنّة في أمر بعض الصحابة
مناظرة محمد بن أبي بكر مع معاوية
الماركسية واللاأخلاق
طريقة إثبات الإسلام والشرائع السابقة
علم الكلام و رصد الحركات الإلحادية
مناظرة العباس بن عبدالمطلب(ره) مع عمر