القواعد والأسس المعنوية والنفسية للتوبة الحقيقية
على أن التوبة الحقيقية والمغفرة للذنوب والفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد والأسس المعنوية والنفسية، وبدونها لا يمكن الحصول على الاطمئنان النفسي، والفرار من دنس الجريمة وهي:
1- الاقرار بالذنب
على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الالهي بصراحة، ويطلب منه العفو والمغفرة. إن الاقرار بالذنب يستطيع أن يزيل درن الذنب، ويجلب رحمة الله الواسعة، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع، ويحل العقدة الباطنية، ويخلص الانسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة.
أما الذين يرتكبون الذنوب، ولا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية والكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية، ويكونون مشمولين للعذاب الالهي ومصابين بمضايقة الوجدان، واللوم والتقريع المستمرين منه.
"عن أبي جعفر عليه السلام: والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به"1 وقد ورد عنه (أي الامام الباقر عليه السلام) أيضاً: "ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم، وبالذنوب فيغفرها لهم"2.
يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "حسن الاعتراف يهدم الاقتراف"3.
على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الالهي بصراحة، ويطلب منه العفو والمغفرة. إن الاقرار بالذنب يستطيع أن يزيل درن الذنب، ويجلب رحمة الله الواسعة، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع، ويحل العقدة الباطنية، ويخلص الانسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة.
2- رجاء المغفرة
يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل وصمة الاجرام بالتوبة والاعتذار، ولا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير.
لقد وضع الاسلام الناس في مركز وسط بين الخوف والرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الاعتداد والعجب بالنفس، وان لا يروا أنفسهم بأمن من عذاب الله لحظة واحدة، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً.
يقول الامام الصادق عليه السلام بهذا الصدد: "إن من الكبائر عقوق الوالدين، واليأس من روح الله، والأمن لمكر الله"4.
إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الاسلامية واسع جداً، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله. يقول الامام أمير المؤمنين لولده عليه السلام مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حد..."وارج الله رجاءً أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك"5.
فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله، مهما عظمت ذنوبه...﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾(الزمر:53).
3- الندم وطلب المغفرة
إن على المذنب بعد الاقرار بالذنب، ورجاء المغفرة، أن يطلب العفو والغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة، وطبيعي أن يغفر الله الذنب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك، وهذا هو معنى التوبة الحقيقية. فإذا أظهر شخص الاستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على اعماله البذيئة، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.
يقول الامام الرضا عليه السلام بهذا الصدد: "من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه، فقد استهزأ بنفسه"6.
إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية ويخلصون أنفسهم بذلك وفي ظل العنايات الالهية من دنس الذنوب، يحوزون على ضمائر هادئة وأرواح مطمئنة، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك ولا يسمعون تأنيباً من الضمير، ويبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً، يقول الامام الصادق عليه السلام: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"7.
الايمان وتدارك الخطأ
لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة، وهي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية وغفران الذنب هو الايمان بالله. إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الايمان أو أنه مادي ومنكر لله أساساً، لا يوفق لتطهير نفسه عن طريق التوبة ، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره، إن السبب في الاختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الايمان عندهم، وعدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي. ولذلك فهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة والاستغفار. ولقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً.
كيف يستطيع عمر بن سعد (وهو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته، ويبدو تردده في الأصول الاسلامية المسلم بها) أن يطهر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية؟!.
وعلى العكس من ذلك، فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الايمان والاعتقاد بالله، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنى التفاتة نحو الله والاستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية، وإذا كان يأسهم من رحمة الله على أثر الغفلة أو الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو الله تائبين نادمين، والله يتقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم.
إن تعذيب الضمير مؤلم جداً، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية. ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية
إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك:
"كان علي بن الحسين عليه السلام في الطواف، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة، فقال: ما هذه الجماعة ؟ قالوا: هذا محمد بن شهاب الزهري، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم فلما قضى عليه السلام طوافه خرج حتى دنا منه، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: ما لك ؟ قال: وليت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى. فقال له علي بن الحسين: لأنا عليك من يأسك من رحمة الله أشد خوفاً مني عليك مما أتيت. ثم قال له: أعطهم الدية. فقال: فعلت فأبوا. قال: إجعلها صرراً، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم"8.
فنجد أن الامام عليه السلام يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون. بعلاج نفسي بسيط... ولذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات. وفي ذلك يقول الأستاذ (هنري باروك) فيما مضى من حديث:
"إن تعذيب الضمير مؤلم جداً، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية. ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية"9.
----------------------------------------------------------------
المصادر:
1- الكافي 2-426.
2- الكافي 2-426.
3- الارشاد للمفيد ص:142.
4- الكافي للكليني ج 2-277.
5- مجموعة ورام ج 1-50.
6- مجموعة ورام ج 2-110.
7- سفينة البحار للقمي-مادة غفر ص:322.
8- مجموعة ورام ج 2-4.
9-الطفل بين الوراثة والتربية
مقارنة بين صنع الله وصنع البشر لتوضيح معنى المعرفة الفطرية