الحبط والتكفير
المقدمة
من المسائل التي تطرح حول علاقة الإيمان والعمل الصالح بالسعادة الأخروية، وكذلك حول علاقة الكفر والعصيان بالشقاء الأبدي، ما يلي: هل أن العلاقة بين كل لحظة من لحظات الإيمان والكفر مع نتيجتها الاخروية، وكذلك العلاقة بين كل عمل حسن أو سيء مع ثوابه وعقابه، هل هذه العلاقة حتمية وثابتة لا تقبل التغير، أم أنها قابلة للتغير؟
فمن باب المثال: هل من الممكن جبران أثر المعصية بالعمل الصالح؟ وكذلك العكس فهل من الممكن إزالة أثر العمل الصالح بالمعصية؟ وكذلك هل يمكن القول بأن أولئك الذين قضوا شطرا من عمرهم في الكفر والعصيان، وشطرا آخر في الإيمان والطاعة، سوف يتعرضون للعقاب فترة، وللثواب فترة أخرى، أو أنه يوازن بين اعمالهم ويجبر أحدهما بالآخر، ونتيجة لذلك يتعين مصير الإنسان، إما السعادة وإما الشقاء في العالم الابدي الخالد؟ أم أن الامر بشكل آخر؟
وهذه المسألة في واقعها هي مسألة (الحبط والتكفير) قال تعالى: ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا، وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)?(النساء:110). وانظر أيضا: (آل عمران:135، الانعام:54،الشورى:25، الزمر:53) التي بحث فيها ومنذ زمان قديم المتكلمون من الاشاعرة والمعتزلة، ونحن هنا نستعرض رأي الشيعة في هذا المجال بإيجاز.
العلاقة بين الإيمان والكفر
اتضح أن أي فعل من الأفعال الحسنة والخيرة، وبدون الإيمان بالأصول العقائدية، لا تأثير له في الحصول على السعادة الأبدية، وبعبارة أخرى: إن الكفر يمنع تحقق تأثير الأعمال الصالحة، ونضيف هنا أن إيمان الإنسان في آخر عمره يمحو الآثار السيئة للكفر السابق، فهو مثل النور الساطع يزيل الظلمات السابقة، وعلى العكس من ذلك، فإن الكفر الاخير يمحو آثار الإيمان السابق، ويجعل صحيفة الشخص سوداء، ويجر مصيره إلى الضياع، ليكون نظير النار التي تسقط على البيدر، حيث تحرقه جميعا دفعة واحدة.
ونضرب مثلا آخر لهذه الفكرة: ان الإيمان مثل المصباح الشديد الضياء، يضيء بيت القلب والنفس، ويزيل الظلمات منه، وأن الكفر مثل انطفاء ذلك المصباح، فهو يطفئ الضياء، ويوجد الظلمات، ومادامت النفس الإنسانية متعلقة بهذا العالم المادي، عالم التغيرات والتحولات فإنها دائما عرضة للضياء والظلام، وإشتداد النور والظلمة أو ضعفهما، ولكن حين يجتاز هذا العالم، حيث تغلق بوجهه أبواب إختيار الإيمان والكفر، فإنه مهما تمنى الرجوع مرة أخرى إلى هذا العالم، ليعمل على ازالة الظلمات، فلا تنفعه تمنياته ابدا.
ولا مجال للشك أو التردد في إعتراف القرآن الكريم بمثل هذا التأثير والتأثر بين الإيمان والكفر، وتدل عليه الكثير من الآيات القرآنية، ومنها الآية (9) في سورة التغابن حيث يقول: ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِه ). وفي الآية 217 من سورة البقرة يقول: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِر فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ).
العلاقة بين الأعمال الحسنة والسيئة
وما ذكرناه حول العلاقة بين الإيمان والكفر يمكن تصوره في الجملة بين الأعمال الحسنة والسيئة، ولكن ليس بصورة عامة، بحيث تسجل دائما في صحيفة الإنسان أعماله الصالحة، وتنمحي وتزول منها أعماله غير الصالحة السابقة، أو تسجل دائما الأعمال غير الصالحة في صحيفة أعماله، بينما تنمحي وتزول منها أعماله الصالحة السابقة (كما إعتقده بعض المتكلمين من المعتزلة)، أو تثبت دائما النتيجة الحاصلة من الموازنة والجمع والجبران بين أعماله السابقة بملاحظة كميتها وكيفيتها (كما إعتقده بعض آخر)، وإنما في مجال الأعمال، لا بد من القول بالتفصيل التالي: وإن هناك بعض الأعمال الحسنة إذا صدرت بصورة صحيحة ومقبولة تمحو آثار الأعمال السيئة السابقة أمثال التوبة فهي إن صدرت بالصورة المطلوبة، تغتفر خطايا الشخص ويعفى عنها (هود:114)، فهي تماما كالنور الذي يسلط ضوءه على النقطة المظلمة ليضيئها، ولكن هذا لا يعني أن كل عمل حسن يمحو آثار كل المعاصي، ومن هنا ربما إبتلي المؤمن بعقاب معاصيه لفترة وبعد ذلك يدخل الجنة الخالدة، وكأن لروح الإنسان أبعادا وجوانب مختلفة، وكل مجموعة من الأعمال الحسنة أو السيئة ترتبط ببعد منها.
فمثلا: العمل الحسن المرتبط ببعد (ألف) لا يزيل أثر الذنب المرتبط ببعد (ب)، إلا إذا كان العمل الصالح من القوة والشدة في نوره بحيث يسري لسائر جوانب الروح الأخرى، أو أن الذنب يبلغ درجة كبيرة من البشاعة والقبح بحيث يشوه سائر الأبعاد والجوانب الأخرى. وقد ورد في الروايات الشريفة، أن الصلاة المقبولة تغسل الذنوب وتسبب غفرانها. يقول القرآن الكريم: ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات )(البقرة:264).
وبعض الذنوب، أمثال عقوق الوالدين، وشرب الخمر، تمنع ولمدة بعد ارتكابها من قبول العبادة، أو أن المن بعد الصدقة يبطل ثوابها، كما جاء في القرآن الكريم: ( لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ).
عن النبي صلى الله عليه و سلم: "ادخرت شفاعتي لاهل الكبائر من امتي"1. ولكن تحديد انواع ومقدار هذا التأثير والتأثر للأعمال الحسنة والسيئة، كل منها في الأخرى، لا بأن نعرفه من خلال الوحي وأحاديث المعصومين عليهم السلام ولا يمكن وضع قاعدة كلية عامة لها جميعا.
وقبل الختام تجدر الإشارة إلى أنه ربما كان للأعمال الحسنة والسيئة تأثيرها في أعمال أخرى في هذه الدنيا نفسها، في حصول المسرات أو الآلام، أو في حصول التوفيق أو سلبه فالملاحظ أن الإحسان للآخرين وخاصة إلى الوالدين والأقارب يؤثر في إطالة العمر، ودفع الأمراض والبلايا، وأن عدم توقير الكبار واحترامهم وخاصة المعلمين والاساتذة له تأثيره في سلب التوفيق، ولكن حصول هذه الآثار في هذه الدنيا لا يعني أن الإنسان قد حصل بشكل كامل على ثوابه أو عقابه، فإن الموضع الأصلي للثواب والعقاب هو العالم الأبدي.
*دروس في العقيدة الاسلامية ، جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- بحار الانوار، ج 8، ص 37 - 40.
التوسل باختصار
البدعة باختصار
بواعث إنكار المعاد وشبهات المنكرين
أشراط الساعة (2)
تجرد الروح
المعاد وحكمة الخلق