مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنة ( 1 )
الاعتقاد بالقضاء والقَدَر من صميم العقائد الإسلامية الّتي جاءت في الكتاب والسنة وليس لمسلم واع إنكار وجودهما، إنما الكلام في تفسيرهما وتحليلهما. وقبل أن نذكر ما ورد في المصدرين نأتي بمقدمة يسهل معها تصنيف الآيات والروايات:
إنَّ "التقدير" كما سيوافيك بيانه مفصلاً هو التحديد، و"القضاء" هو الحكم والإبرام وكلاهما ينقسم إلى علمي وعيني.
"فالتقدير العلمي" عبارة عن تحديد كل شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه قبل أن يخلق العالم أو قبل أن يخلق الأشياء الحادثة.فالله سبحانه يعلم حد كل شيء ومقداره وخصوصياته الجسمانية والمعنوية. كما أنَّ المراد من "القضاء العلمي" هو علمه بضرورة وجود الأشياء وإبرامها، وأنّ أي شيء يتحقق بالضرورة وما لا يتحقق كذلك.فعلمه السابق بحدود الأشياء وضرورة وجودها، تقدير وقضاء علميان.
وأمَّا "التقدير العيني"فهو عبارة عن الخصوصيات الّتي يكتسبها الشيء من علله عند تحققه وتَلَبُّسه بالوجود الخارجي. كما أن المراد من "القضاء العيني" هو ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامة ضرورة عينية خارجية.
فلو كان القدر والقضاء العلميان ناظرين إلى التقدير والضرورة في علم الله سبحانه، فالتقدير والقضاء العينيان ناظران إلى التقدير والضرورة الخارجيين اللَّذين يحتفان بالشيء الخارجي.
والتقدير والقضاء هناك مقدَّمان على وجود الشيء وها هنا مقارنان بل متحدان مع وجوده.
والآيات الواردة في الكتاب على صنفين: صنف ينصّ على العلمي منهما وصنف على العيني منهما، ولأجل ذلك نفسّر الآيات ونُصَنّفُها حتى يكون الباحث في المسألة على بصيرة.
التقدير والقضاء العلميان في الكتاب
1- قال سبحانه: ?وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً?(آل عمران:145).
وهذا كاشف عن أنَّ مقدار حياة الإنسان مُقَدّر من قبلُ، لا يتخلف.
والآية تعريض بما نقله تعالى عن بعض المنافقين في الآية التالية:?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا?(آل عمران:156). فردّ عليهم سبحانه بما عرفت في الآية.
2- قال سبحانه: ?قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَمَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ?(التوبة:51).
والآية تهدف إلى أنَّ ولاية أمرنا لله سبحانه، كما يدل عليه قوله: (هُوَمَوْلاَنَا)، وقد كتب كتابة حتم ما يصيبنا من حياة وشهادة. فلو أصابتنا الحياة كان المنّ له وإن أصابتنا الشهادة كانت المشيئة والخيرة له، فالكل من الله وكلاهما حسنة ولأجل ذلك يقول: ?قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَاب مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ?(التوبة:52).
3- قال سبحانه: ?وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ?(فاطر:11).
فالآية تنص على سبق علمه سبحانه على تحقق الأشياء وتكوّنها وتحددها وتقدرها، وكل ما يحف بها من الخصوصيات.
4- قال تعالى: ?وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِير وَكَبِير مُسْتَطَرٌ?(القمر:52-53).
"الزُّبُر" كتب الأعمال، والمراد بالصغير والكبير، صغيرها وكبيرها والكل مكتوب في كتاب خاص.
5- قال تعالى: ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ?(الحديد:22).
المصيبة هي النائبة الّتي تصيب في الأرض كالجدب وعاهة الثمار والزلزلة المخربة، أو الّتي تصيب في الأنفس، كالمرض والجرح والكسر والقتل، والمراد من الكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.وإنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض أو في الأنفس من المصائب لكون كلامه فيهما، وإلاَّ فالمكتوب لا يختص به.
وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) دالٌّ على أنَّ تقدير الحوادث قبل وقوعها والقضاء عليها بقضاء، لا صعوبة فيه.
ويقول سبحانه بعد هذه الآية: ?لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور?(الحديد:23).
والآية بِمَنْزِلِة التعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقُوعِها. والمعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل الوقوع لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النِّعَم، ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها، لأنَّ الإنسان إذا أيقن أنَّ المصاب مقدر كائن لم يحزن لفوته ولم يفرح لمجيئه.
هذه بعض الآيات الّتي وردت في بيان أنَّ خصوصيات الأشياء وضرورة وجودها متحققة في علمه الأزلي أو مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات الماضية.
*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص171-177
معطيات الإعتقاد بالقضاء والقدر
الحكمة من الافات والكوارث
التقدير مقدَّم على القضاء
الجبر والتفويض
السنن الإلهية في المجتمع البشري