الثورة في منظار الإسلام نوع من جهاد باطني، حيث تجاهد جماعة لله وفي سبيل الله وجماعة أخرى تواجهها وتصد عن سبيل الله وتقاتل في سبيل الكفر.
هذه المواجهة قد بينها القرآن الكريم في آية حول معركة بدر، فيقول جل وعلا: ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) ،( آل عمران /13 ).
ومن له أدنى اطلاع بتاريخ الأنبياء (ع) وطالع مسائل الاستضعاف والاستكبار في القرآن الكريم لا يعتريه شك في أن كل الجهود والثورات في الثقافة السياسية للإسلام كانت تصب في مصلحة المستضعفين والمحرومين، وإن ثورة الأنبياء وحتى بعثة النبي الأكرم (ص) كانت لمصلحة المستضعفين، إلا أن الأساس والعمل الرئيسي لها هي العقيدة والإيمان بالدين الإلهي الذي يخاطب الفطرة الإنسانية، لأن الناس قد جبلوا على الفطرة الإلهية النقية، لكن هذه الفطرة قد تكون أسيرة بالأغلال لدى المستعمر وتكون لدى المستضعف في الأسر بصورة أخرى.
فالمحروم والمستضعف الذي لا يصرخ ولا ينهض ويجاهد للمطالبة بحقه ولاستقرار العدالة فإنسانيته مغلولة يجب تحريرها.
لهذا فالثورة تبدأ أولاً في البواطن، والأنبياء سعوا لتحرير الإنسان في باطنه، وما دام لم تقع ثورة في الباطن فلا أمل كثيراً بوقوع ثورة في المجتمع.
ولاشك أن الثورة الإسلامية في إيران كانت تغييراً اجتماعياً سياسياً جذرياً وعميقاً.
ولهذه الثورة الكبرى خصائص تمايزها عن سائر الثورات التي سبقتها في عالمنا المعاصر، ولمعرفة الثورة الإسلامية لابد من معرفة خصائصها ومعالمها. لهذا نحاول هنا من إلقاء الضوء على هذه الخصائص من كتاب "انقلاب إسلامي وريشه هاي آن" [الثورة الإسلامية وجذورها] لآية الله د. عميد زنجاني.
نلقي في ما يلي نظرة على ما تتسم به الثورة الإسلامية من خصائص مع ملاحظة أن النقاط التالية هي الأبرز من بين تلك الخصائص:
1ـ عنصر العقيدة والإيمان:
من البديهي أن عزل الشعب عن الحكومة ـ رغم الارتباطات التي تملي على الشعب الانصياع للحكومة، والقوة التي تسخرها الحكومة على الدوام ضد الشعب ـ يستلزم وجود عنصر قوي، وهذا العنصر ينبغي البحث عنه، في ما يخص قضية الثورة الإسلامية، في إيمان وعقيدة جماهير الشعب.
فالشعب كان يرفض ـ في ظل اعتقاده بالإمامة واستمرارها واعتقاده بالمسؤولية العامّة بوجوب سيادة الأحكام والقيم الإلهية ـ أي نوع من العلاقة والتعاون مع الأنظمة الغاصبة اللاشرعية، ويعتبر التمرد على حماتها وهدم كافة المؤسسات المرتبطة بها فريضة لا مناص من أدائها.
2ـ النهج الإسلامي للثورة:
المراد من النهج الإسلامي هو أن جذور أهداف الشعب الثورية كانت مستمدة من القيم الإسلامية، وكانت مضامين وشعارات الثورة مستمدة من العقيدة، وكانت أساليب الجهاد وأصوله مستقاة من الإسلام. فالإسلام هو الذي أدى دوراً أساسياً وحاسماً في استقطاب واستنهاض الطاقات المؤمنة، وكان الهدف الجوهري لحركة الشعب سيادة العقيدة والموازين والقيم إسلامية.
لقد تجلت تلك الأهداف في الشعارات والهتافات التي كانت تنادي بها قطاعات الشعب كافة، وكانت تلك الشعارات تعكس مشاعر الشعب ووعيه إزاء النهج الإسلامي للثورة.
3ـ الأفق المعنوي:
ليست المعنوية التي نتحدث عنها هنا بوصفها واحدة من سمات الثورة الإسلامية، من سنخ المعنوية التي تذهب إليها النظرية الإنسانية في مجال الاتجاه الإنساني وتحرير الإنسان من أغلال المالكية، فهذه المعنوية تعبير آخر عن النزعة المادية.
أما المعنوية التي يقول بها الإسلام وتدخل في عداد الخصائص البارزة للثورة الإسلامية، ونفخت كنفخ الروح في الجسد، هي عبارة عن ذروة انعتاق الإنسان التي تتجلى في عبوديته لله وطاعته لأوامره.
وهذه المعنوية قد أضفت على الثورة ـ رغم طابعها القهري ـ نوعاً من الشفافية والروح الإنسانية، وجعلت من اليسير تحمل العنف الذي رافقها والنواقص المتمخضة عنها.
4ـ قوة القيادة ونفوذها المعنوي:
إن فلسفة الإمامة واستمرارها المتجسد في ولاية الفقيه في زمن غيبة الإمام المعصوم (ع) تعد من جملة العوامل الحاسمة في بلورة وانتصار الثورة الإسلامية.
فالشعب يتقبل ـ في ضوء اعتقاده بالإمامة وامتدادها في قلب نظام ولاية الفقيه ـ قيادة الفقيه الجامع للشرائط كزعيم عقائدي. والنفوذ المعنوي للفقيه، على مستوى مرجع التقليد، معناه الحكومة على القلوب؛ إذ تطاع فتاواه في كافة شؤون الحياة باعتبارها تمثل حكم الله. واتباع الولي الفقيه بمثابة امتثال أمر الإمام المعصوم، وتعني في النهاية طاعة رسول الله (ص) الذي قال فيه القرآن صراحة: ( ومن يطع الرسول فقط أطاع الله).
ولاشك في أن إخلاص وصراحة وشجاعة وصلابة وتفاني وحزم الإمام وحبّه للإسلام، وزهده وعلو مكانته العلمية والفقهية، ومنزلته العرفانية وبساطة حياته كان لها دورها في هذا المثل في القيادة. إلاّ أن الأهم من هذه المؤشرات البارزة التي جعلت من الإمام أسوة في القيادة ومنحته دوراً أكبر من دور مجرد قائد ثورة، هو أن نداء الإسلام قد نبع ـ حسب تعبير الشهيد مطهري ـ من قلب ثقافة هذه الأمة ومن أعماق تاريخها ومن أغوار روحها.
هذا الشعب الذي سمع على مدى أربعة عشر قرناً من ملحمة محمد (ص) وعلي (ع) و الزهراء (س) و الحسن (ع) و الحسين (ع) و زينب (س) وسلمان وأبي ذر ومئات الآلاف من الشخصيات الإسلامية الأخرى، وامتزجت هذه الملاحم مع أرواحهم، سمعوا مرة أخرى هذا النداء ينطلق من حنجرة هذا الرجل، ورأوا في سيمائه علياً (ع) والحسين (ع)، ووجدوا فيه مرة كبيرة تنعكس خلالها ثقافتهم وهويتهم الإسلامية المنتهكة، فذابوا في الإمام. ولكن ماذا فعل هو حيال هذه الاستجابة التاريخية الهائلة؟ منح هذا الشعب المجهول هوية، وأعاد إليه هويته الإسلامية المفقودة، وأقحم إيران على ساحة السياسية العالمية، وأبرز الإسلام ـ كما كان في صدر الإسلام ـ كقوة مستقلة أمام القوى الناهبة لثروات العالم.
5 ـ النهضة الشعبية الشاملة:
لقد كان اتحاد وتلاحم الشعب الإيراني أثناء أحداث الثورة الإسلامية بشكل تعجز مصطلحات من قبيل الشعب والجماهير عن بيان معناه. ويمكن القول إن كلمة الأمة بمعناها القرآني قد تجسدت ابان تلك الأحداث.
كان نهوض الجماهير بقلب واحد وروح واحدة، وبتحرك هادف ومنسجم وحافل بالنشاط على نهج القيادة الدينية، وفي قمة الإخلاص والتفاني والذوبان في الإسلام والقائد، من الخصائص الرائعة للثورة الإسلامية التي قلما شهدتها في تاريخها.
كان ذلك الاتحاد يضم بين ثناياه كافة الفصائل الشعبية، والأسمى من ذلك أنه طغى على كافة التيارات السياسية الناشطة آنذاك، وجرف معه حتى المناوئين والحياديين وأصحاب النظريات المستوردة، وملأ الفراغات ونقاط الضعف التي كان من المحتمل أن يتسلل منها العدو.
ولم تكن هذه الوحدة من طراز التحالفات الحزبية أو التنظيمات المصلحية المؤقتة؛ وإنما كانت وحدة تتجلى في نداء "الله أكبر"؛ وبالشكل الذي شهدناه يوم عيد الفطر ويومي التاسع والعاشر من محرم عام 1357 في طهران، وكذلك التظاهرات الحاشدة في كل أجزاء إيران.
كان الإسلام هو العامل الوحيد الذي أوجد هذا التلاحم. وإلا، فلو ساد أي هتاف, أية مشاعر أخرى على الساحة، لأضرت ـ بلا شك ـ بتلك الوحدة، ولأدت إلى بروز الاختلافات. ومن هذا المنطلق دوت صرخة السنة إلى جانب صرخة الشيعة، وكبروا بصوت واحد، واصطفوا في خندق واحد.
6ـ مراكز التوعية ومعاقل النهضة:
أدّت ثلاثة مراكز رئيسية دوراً فاعلاً في الثورة الإسلامية وتوعية الجماهير، وكانت بمثابة المعاقل الأساسية للثورة؛ حيث وسعت وعمقت شعارات الثورة بين أوساط الشعب وساهمت في التعجيل بانتصارها، وشلت قوة السلطة الحاكمة وأحبطت مؤامرات عملائها، ودفعت الشعب نحو الاتحاد والتكاتف.
وكانت تلك المراكز الثالثة هي المسجد، والحوزة العلمية، والجامعة. ومن الطبيعي أن بيان مدى تأثير كل واحد من هذه المراكز يستلزم شرحاً موسعاً، بيد أننا نبادر هنا إلى تقديم شرح مختزل لدور كل واحد من هذه المراكز، وبالقدر الذي يتعلق ببحثنا هذا، وعلى الترتيب الآتي:
آية الله د. عميد زنجاني