التسلسل المنطقي المتين وتولد الأفكار من الأفكار
وهو عندما يعمل في موضوع - أي موضوع: وضيع أو رفيع - لا يسرد سرداً ولا يجتر اجتراراً - كما نفعل نحن، أو حتى كما يفعل الفلاسفة والمفكرون - وإنما يجسد شيئاً حاق به، ويفرغ شحنةً ضاق بها. فلا تأخذه كيف شئت وإنما يأخذك كيف شاء، حتى كأنك في مشهد أو محراب لا أمام خطيب أو كتاب.
ثم: التسلسل المنطقي المتين وتولد الأفكار من الأفكار، فكل فكرة نتيجة طبيعية لما قبلها ومقدمة طبيعية لما بعدها. فلا فكرة إلا وتمسك بك للتأمل، ولا جملة إلا وتطلك على آفاق تطل على آفاق. بدون أي تلكأ، أو تكلف، أو جهاد، أو لهاث...؛ بل كما ينفجر الفجر، وينسرح العطر، وتهرب المياه في الانهار، وتفرز القطوف من الأشجار...
وهذه المقدرة الذكية مظهر لواقع الإمام المعجز في كل ما قال أو كتب، حتى وهو يتناول أعتى الأشياء على القلم واللسان.
فاستمع إليه وهو يتحدث عن الدين وعن التوحيد وعن الله: ( أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه: لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة).
(فمن وصف الله - سبحانه - فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده. ومن قال: (فيم)؟ فقد ضمّنه، ومن قال: (علام)؟ فقد أخلى منه).
(كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم. مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة. فاعل، لا بمعنى الحركات والآلة. بصير، إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحد، إذ لا سكن يُستأنس به ولا يستوحش لفقده). (1)
فالأصل الأول للدين هو (معرفة الله). ولا يمكن معرفة الله إلا بـ(التصديق) فمجرد (التصور) ليس دينا، وإنما الدين هو الإذعان المطلق. ولا يكمل (التصديق) إلا بالإله الواحد، فالتصديق بالآلهة المتعددة بدائي يزول بالتأمل، لأن الإله لو كان متعدداً لتناقضوا وعلا بعضهم على بعض ففسدت السماوات والأرض (2) . هكذا.. تنبسط الأفكار الجليلة الماورائية لمدى الإمام، فتتولد وتتناسق بمثل هذه الجزالة وهذا العمق.
ويقول قبل ذلك:
(ليس لصفته: حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود). (3)
فالله (مطلق) غير متناه، فلا تطوقه دائرة الأبدية التي طوق بها خلقه، وإنما هو فوق هذه الدوائر ومعها وبعدها.
والوقت هو وليد حركة الأجرام الكونية، فلا يرقى إلى الله. فبالنسبة إلى المقهورين بالزمان يوجد شيء اسمه (الأبد)، أما بالنسبة إلى قاهر الزمان فلا يلغي مولدات الزمان إلا ويكون (الأبد) قد رحل.
وسئل الإمام عن التوحيد والعدل، فكان الجواب:
(التوحيد: أن لا تتوهمه، والعدل: أن لا تتهمه). (4)
فالصور الذهنية مخلوقة لاصحاب الأذهان، وليست خالقة لهم. والإله المتهم، ليس عادلاً. أما الله، فهو: خالق الأوهام، وبعيد من الاتهام.
وفي كل ما قرأت عن الله، لم أجد جملتين بهذا الجلاء والمضاء: كل جملة تتضمن مدلولاً واضحاً يرفض أي احتمال، ودليلاً مكيناً لا يترك مجالاً لجدال. وهل يمكن أن يوجد إنسان يتحدث عن صفات الله بمثل هذه السيطرة على التفكير والتعبير؟!
آية الله السيد حسن الشيرازي
-------------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
1 - نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
2 - إشارة إلى الآية الكريمة: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله ـ رب العرش ـ عما يصفون!) سورة الأنبياء، 22.
3 - نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
4 - نهج البلاغة، الحكمة رقم 462.
حقوق الناس في نهج البلاغة
الامام علي – عليه السلام - يشرح فلسفة الوجود