صدور كتاب يضم الرسائل الخاصة لطه حسين
عالم الرسائل بين طه حسين و الآخرين يمثل الوجه الخفي و الحقيقي للحركة الأدبية الحديثة . يصح أن يوصف عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين بمالئ الدنيا و شاغل الناس ، مثله مثل أبي الطيب المتنبي قديماً و حديثاً. و بصرف النظر عما إذا كان المرء معجباً به ، منحازاً إليه ، مقدراً مواقفه و دوره ، أم كان على العكس من ذلك لأن له أعداء كثيرون ، فلا أحد ينكر أن طه حسين شكل أحد المحاور الأساسية ، إن لم يكن المحور الأساسي الأول للحركة الأدبية العربية في القرن العشرين.
فإن كثيرا من الشخصيات التي هاجمت طه حسين ، و اتهمته بالخروج على العادات و التقاليد ، كانت ترسل إليه في الخفاء رسائل المديح و قصائد الثناء ، و تخلع عليه الالقاب العلمية ، و تصفه بالريادة العلمية و الاصلاحية.
وقد تجدد الحديث حول طه حسين مؤخراً بمناسبة صدور كتاب ضخم عن دار الشروق ، ضم أوراقه الخاصة أو ما سماه محقق هذه الاوراق ، الدكتور عبد الحميد إبراهيم ، الوثائق السرية . و فيها ما لا يحصى من المواضيع التي يبدي فيها طه حسين رأيا ً، أو يقف موقفاً ، ما قد يغير في قليل أو كثير ، من صورته التي يعرفها عنه جمهور المثقفين . و في هذه الأوراق ، أو الوثائق، الكثير من الرسائل التي تبادلها طه مع الأدباء المصريين و العرب و الأجانب . و لا شك أن الكتاب بمجمل ما تناوله من رسائل و قضايا و مواقف ، يؤلف حدثا ثقافيا مهما من شأنه أن يعيد النظر ، قبل كل شيء ، بسيرة العميد ، و بثوابته و بمتغيراته.
عالم الرسائل بين طه حسين و الآخرين ، و عليها تنصب أكثر صفحات الكتاب ، يمثل الوجه الخفي و الحقيقي للحركة الأدبية الحديثة. و يلعب طه حسين مقلب الرحى في هذه الرسائل . و قد أتته رسائل متنوعة من مختلف الفئات و الطبقات ، ومن عامة الناس و خاصتهم، و من رجال الأدب و الفن و الاقتصاد و الإدارة و صانعي القرار السياسي.
ومن هنا نجد رسائل من المكوجي و الموظف الصغير و الطالب الفقير ، و من أم كلثوم وم حمد عبدالوهاب و مي زيادة، و طلعت حرب و مصطفى النحاس ، و الرافعي ، و مكرم عبيد ، و فؤاد سراج الدين ، و من كبار المشايخ و رجال الدين المسيحي ، و حاخام اليهود ، و المندوب السامي البريطاني ، و كبار الامناء ، و مختلف الوزراء ، و من العالم العربي في السعودية و المغرب و تونس و السودان و سوريا و لبنان و العراق.
وهذه الرسائل في عمومها تفسر الكثير من الظواهر التي ننظر إليها من السطح دون أن نعرف جذورها و مراميها و دون أن نضعها في لحظتها التاريخية المعقدة.
وهذه الرسائل في عمومها تفسر الكثير من الظواهر التي ننظر إليها من السطح دون أن نعرف جذورها و مراميها و دون أن نضعها في لحظتها التاريخية المعقدة.
و ربما كان الأهم من ذلك انها تضعنا في مواجهة صفة رئيسية تمثل تركيبة نفسية عميقة ، و تشكل الكثير من تصرفاتنا السياسية و الفكرية ، و هي صفة انقسام الشخصية ، فتبدو على السطح بوجه ، و تبدو في الخفاء بوجه آخر. فإن كثيرا من الشخصيات التي هاجمت طه حسين ، و اتهمته بالخروج على العادات و التقاليد ، كانت ترسل إليه في الخفاء رسائل المديح و قصائد الثناء ، و تخلع عليه الالقاب العلمية ، و تصفه بالريادة العلمية و الاصلاحية.
و هذه الرسائل سواء كانت من أو إلى طه حسين ، ليست مجرد رسائل لتبادل المعلومات ، و إلقاء التحيات ، بل هي وثائق ذات دلالة تاريخية و أدبية.
فهي ، تاريخياً تلقي الضوء على كثير من الاحداث السياسية التي ازدحمت بها تلك الفترة . فبعضها كان موجها إلى طه حسين من صانعي القرار السياسي ، يعرضون ما يشغلهم أمام طه حسين ، و ينتظرون منه النصح و التوجيه.
و هذا يدل على ان العلاقة بين رجال السياسة و رجال العلم ، كانت علاقة صحية في تلك الفترة المبكرة ، تقوم على التزاوج الناضج بين السياسة و العلم ، مما يخدم كلاً من السياسة و العلم ، فلا تجعل رجال العلم و الفكر مهمشين يكتفون بتدبيج الصفحات و يحسون انهم لا يقدمون و لا يؤخرون.
ولم يكن طه حسين من نوعية العلماء الذين ينعزلون عن الواقع حولهم . فقد كان ينغمس في التيارات السياسية و الفكرية حوله دون ان يفقد ملكة التحليل و الفهم ورد الامور إلى جذورها الاصلية. إن رسائله إلى السياسيين تكشف عن اهتمام بالمستجدات السياسية ، و تسمح لهبوب الرياح و توجيه السفن بما يشتهيه الملاح.
أدبياً ، تمثل هذه الرسائل ، سواء كانت من طه حسين أو إليه ، نماذج راقية المستوى ، تتحقق فيها العناية بالأسلوب و الايقاع اللفظي ، و المقابلة بين المفردات و الجمل ، و غير ذلك من محسنات ، نراها شائعة في أسلوب طه حسين.
في إحدى رسائله في الكتاب، يطلب من الشيخ علي عبد الرازق ان ينبذ السياسة ، و يفرغ للعلم لأن لديه من صفات الزعامة العلمية ما هو كفيل بأن يضعه في مراتب الرواد. ولكن طه كثيرا ما ينصح اصدقاءه بأشياء يفعل هو غيرها على نحو مخالف . في رسائله يغري أصحابه باللهو و الاستمتاع بالحياة ، في الوقت الذي ينغمس فيه مع المتنبي أو مع سواه من أدباء التراث . و نراه مرة ثانية يهاجم السياسة و ينصح بالبعد عنها ، في الوقت الذي ينغمس في تيارها حتى أذنيه.
أدبياً ، تمثل هذه الرسائل ، سواء كانت من طه حسين أو إليه ، نماذج راقية المستوى ، تتحقق فيها العناية بالأسلوب و الايقاع اللفظي ، و المقابلة بين المفردات و الجمل ، و غير ذلك من محسنات ، نراها شائعة في أسلوب طه حسين.
لم يكن طه حسين يكتب مجرد رسالة تتحقق فيها صفة الاتصال و حسب ، ولكنه كان يعتني برسائله مثلما يعتني بمقالاته. و كان الذين يكتبون إليه يحاولون أيضاً ان يصلوا إلى هذا المستوى الفكري و الادبي ، فلا يكتبون مجرد كلمات تنقل أفكاراً مجردة ، بل كانوا يعتنون بألفاظهم و تعبيراتهم.
و رسائل طه حسين ذات قيمة تاريخية و أدبية ، و لا تقل بحال عن مؤلفاته و لا عن معاركه الفكرية و السياسية . فهي من ناحية ذات كم كبير و متنوع . كان طه حسين محور عصره ، يكتب إليه الكبار و الصغار ، و طالبو الحاجة ، و الباحثون عن الشهرة. و هي من الناحية الكيفية تفسر الكثير من الظواهر التاريخية و الأدبية ، و تلعب من هذه الزاوية دورا يفوق ما تلعبه مؤلفاته لأنها ذات طابع سري و شخصي ، تلقي الضوء على ظروف هذه الشخصية التي كانت تميل إلى إخفاء ذاتها ، و تضليل القارئ في سراديبها. و كان يتلاعب بالحقائق التاريخية و الفعلية بهدف ابراز قدراته و تحويل القارئ إلى شيء منبهر.
و تبدو شخصية عميد الأدب العربي عملاقة من خلال هذه الرسائل . فالكثير يخلعون عليه الألقاب الجليلة ، و يسيرون على نهج أفكاره ، و يتبعونه في كثير من لوازمه الأسلوبية.
ولم يكن السبب في ذلك قدرات العميد وحدها. فإن الكثيرين من معاصريه كانوا يفوقونه في التحصيل العلمي و التثقيف الذاتي . ولكن السبب يعود إلى أن طه كان يتحدث بروح تلك الفترة ، و كان لسانها المعبر عنها ، و هي فترة غلبة المد الاوروبي ، و انتصار النموذج الغربي ، و النفوذ الاستعماري . فطه حسين إذن لا يتحدث بنفسه ولكن يتحدث بغيره. وكان يقف وراءه كل ما في هذه الفترة التاريخية من أصوات عالية تدعو إلى الحضارة الاوروبية. أو لنقل ، بعبارة أخرى ، ان طه ركب الموجة فرفعته تلك الموجة عالياً . في صورة ما ، يبدو طه منتشياً بحياته العصرية التي يرضى عنها المحيطون به ، بينما نجده في صورة أخرى منكسراً لأنه يمثل ذلك النموذج الذي تحاصره الحياة الاوروبية و تفرض عليه الانكماش.
وقد تكرر هذا الهجوم عند طه حسين بصورة لافتة ، ولم تنج منه حتى أعماله الروائية ، و ذكرياته في الأيام و لم يكن يقصد وجه الحقيقة ، أو يقف عند حد المقتضيات الفنية في الأعمال الروائية. بل كان يستطرد و يوغل و يهاجم و يتهكم و يجرح ، و لا يقف عند حد تصور الشخصية كمسمى إنساني ، بل كان يهاجمها كرمز للتراث و للثقافة المتخلفة.
هذه المقارنة بين مظاهر الحياة العصرية في أوروبا ، و مظاهر الحياة المتخلفة في مصر، لم يكن طه حسين يقصد بها حث المصريين على اللحاق بركب الحضارة المتقدمة ، بل كان يهدف إلى التجريح و الايذاء والتهوين من التراث ، و التهكم من الرموز و الثوابت.
ولم يكن الأمر كذلك في بداية النهضة عند الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان يقارن بين باريس و مصر بطريقة هادئة، لا تعصف بكل شيء ، و تغلب عليه الروح الحانية التي ترى شيئا جميلا في الغرب ، فتتمنى أن تراه في الشرق، خاصة أن تراثنا قد سبق الغرب في حضارته، وقدم للإنسانية تلك النماذج الراقية.
ولكن هذه الروح الحانية قد توقفت عند طه حسين الذي تحولى إلى عاصفة تدمر كل شيء ، و تسير في اتجاه هبوب الرياح ، و تجد من التشجيع و الترحيب ما حولها إلى نموذج تحذوه أجيال الكتاب بعد ذلك .. و قد آن الأوان لتصحيح هذه النماذج و تصويرها بطريقة موضوعية.
و يبدو أن مثل هذه الروح الساخرة في كل ما هو عربي أو مصري أو اسلامي، تمكن طه حسين من نقلها الى عدد من أصدقائه منهم الشيخ علي عبدالرازق ، الذين كانوا يفخرون و يشعرون بالتميز لأنهم يشاهدون باريس ، و يتحدثون عنها. و تصل هذه النغمة الى مقام الغناء في باريس ، و مقام الغناء يتحدث عنه الصوفية حين يتحدون بالحضرة الآلهية.
المصدر: وكالات