أدلّة نفي التحريف 1
إنّ مصونية القرآن الكريم من التحريف بمعنى النقيصة هي من الاَُمور البديهية الثابتة على صفحات الواقع التاريخي ، و التي لا تحتاج إلى مزيد استدلالٍ و توضيحٍ و بيان ، حتّى إنّ بعض المنصفين من علماء و أساتذة غير المسلمين صرّحوا بعدم وقوع التحريف في القرآن الكريم ؛ فالاستاذ لوبلو يقول : « إنّ القرآن هو اليوم الكتاب الربّاني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر » (1).
و يقول السير وليام موير : « إنّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يدٍ ليدٍ حتّى وصل إلينا بدون تحريفٍ ، وقد حُفِظ بعنايةٍ شديدةٍ بحيث لم يطرأ عليه أي تغييرٍ يُذكَر ، بل نستطيع القول أنّه لم يطرأ عليه أيّ تغييرٍ على الاطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الاِسلامية الواسعة »، (2) . و بمثل ذلك صرّح بلاشير أيضاً (3).
و قد أستدلّ العُلماء المحقّقون على عدم وقوع التحريف في القرآن بجملة من الاَدلّة الحاسمة ، هي من القوّة و المتانة بحيث يسقط معها ما دلّ على التحريف بظاهره عن الاعتبار ، لو كان معتبراً ، و مهما بلغ في الكثرة ، و تدفع كلّ ما أُلصق بجلال و كرامة القرآن الكريم من زعم التحريف و تُفنّد القول بذلك وتُبطِله حتّى لو ذهب إليه الكثيرون فضلاً عن القلّة النادرة الشاذّة ، و فيما يلي نذكر أهمّها :
1 ـ حِفظ الله سبحانه للقرآن الكريم ، و لذا لم يتّفق لاَمرٍ تاريخي من بداهة البقاء مثلما اتّفق للقرآن الكريم ، فهو الكتاب السماوي الوحيد الذي تعهّدت المشيئة الاِلهية ببقائه مصوناً من تلاعب أهل الاَهواء ومن التحريف و إلى الاَبد حيثُ قال تعالى : ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، (الحجر15: 9).
فالمراد بالذكر ـ كما يقول المفسّرون ـ في هذه الآية : القرآن الكريم ، و صيانة القرآن من التحريف من أبرز مصاديق الحفظ المصُرّح به في هذه الآية ، ولولا أن تكفّل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم و صيانته عن الزيادة و النقصان لدُسّ فيه ما ليس منه ، كما دُسّ في الكتب المتقدّمة المنزلة من عند الله ، فلم يبقَ فيها سوى مادخل عليها من ركيك الكلام و باطل القول ، ولكن الكتاب الكريم قد نفى كلّ غريب ، و سلم من الشوائب و الدخل ، فلم يبق إلاّ كلام الربّ سليماً صافياً محفوظاً .
2 ـ نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب الكريم بصريح قوله تعالى : ( وَ إنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، (فصلت 41: 41 ـ 44).
و التحريف من أظهر مصاديق الباطل المذكور في الآية ، و عليه فالقرآن مصونٌ عن التحريف و عن أن تناله يد التغيير منذ نزوله و إلى يوم القيامة ، لاَنّه تنزيلٌ من لدن حكيم حميد ، و يشهد لدخول التحريف في الباطل الذي نفته الآية عن الكتاب ، أنّ الآية و صفت الكتاب بالعِزّة ، و عزّة الشيء تقتضي المحافظة عليه من التغيير و الضياع و التلاعب ، و من التصرف فيه بما يشينه وي حطّ من كرامته و إلى الاَبد .
3 ـ قوله تعالى : ( إنَّ عَلَينا جَمعَهُ و قُرآنَهُ * فإذا قَرَأناهُ فَاتَّبِعْ قُرآنَهُ * ثُمَّ إنَّ عَلَينا بَيَانَهُ ) ، (القيامة 75: 17 ـ 19) . فعن ابن عباس و غيره : إنّ المعنى : إنّ علينا جَمْعَهُ و قُرآنَهُ عليك حتّى تحفظه و يمكنك تلاوته ، فلا تخف فوت شيءٍ منه (4).
4 ـ حديث الثقلين ، حيث تواتر من طرق الفريقين أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « إنّي تاركٌ فيكم الثقلين : كتابُ الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إنّ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي » ، (5).
و هذا يقتضي أن يكون القرآن الكريم مدوّناً في عهده (صلى الله عليه و آله و سلم) بجميع آياته و سوره ، حتّى يصحّ إطلاق اسم الكتاب عليه ، و يقتضي أيضاً بقاء القرآن كما كان عليه على عهده (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى يوم القيامة لتتمّ به ـ و بالعترة ـ الهداية الاَبدية للاَُمّة الاِسلامية والبشرية جمعاء ماداموا متمسّكين بهما ، و إلاّ فلا معنى للاَمر باتّباع القرآن و الرجوع إليه والتمسّك به ، إذا كان الآمر يعلم بأنّ قرآنه سيُحرّف ويبدّل في يومٍ ما !
--------------------------------------------------------------
الهوامش :
(1) تاريخ القرآن للصغير : 94 عن كتاب : المدخل إلى القرآن لمحمد عبدالله دراز : 39 ـ 40 .
(2) تاريخ القرآن للصغير : 93 .
(3) القرآن نزوله ، تدوينه ، ترجمته وتأثيره لبلاشير : 37 .
(4) مجمع البيان 10 : 600 .
(5) هذا الحديث متواتر مشهور ، رواه الحفّاظ والمحدّثون عن نحو ثلاثين صحابياً ، وللحافظ ابن القيسراني (448 ـ 507 هـ) كتاب في طرق هذا الحديث ، وقد بحث السيد علي الميلاني هذا الحديث سنداً ودلالة في ثلاثة أجزاء من كتابه (نفحات الازهار في خلاصة عبقات الاَنوار في إمامة الاَئمة الاَطهار) ، وأُنظر أهل البيت في المكتبة العربية رقم 298 للسيد عبدالعزيز الطباطبائي رضي الله عنه .
أدلّة جمع القرآن في زمان الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)
أدلّة جمع القرآن في زمان الرسول (ص)
أهل السنة ينفون التحريف