التنمية و الدين
تدور الأبحاث في خلال هذا المؤتمر حول موضوع التنمية الإنسانية ، مع التركيز على أبعادها الدينية و الاجتماعية و المعرفية ، بعد أن وقع اختياركم في العام الماضي على استشراف موقع الحرية في كل عملية منشودة للإصلاح و التجديد . و ما من شكّ في أنكم رمتم في هذين الخيارين قصداً و مقصداً. ذلك أن العلاقة القائمة بين الحرية و التنمية لشبيهة بما يعرف من وشائج بين الروح و الجسد في الكيان الإنساني أو المجتمعي الواحد . فلا حرية مبدعة و خلاقة في جسم مفتقد إلى القوة و الحيل ، و لاتجميع طاقات تأتي بفائدة في كيانات لاتدرك وجهها و لاتعرف اتجاهها.
و لعل في هذه المقاربة بين التنمية و الحرية ما يشير فعلاً إلى أهمية البعد الديني في إدراك المفهوم الصحيح للتنمية ، و في تحقيقها على أرض الواقع . فنحن عندما نبغي تنمية الإنسان في إنسانيته إنما نتعاطى مع اكتمال هذا الإنسان في دعوته الأساسية ، مع توفير الظروف المادية و المعنوية الملائمة لتحقيق هذه الدعوة . و من المعروف في هذا المجال ، أن القرن التاسع عشر الميلادي منذ أواسطه و القرن العشرين حتى أواخره ، أي منذ إطلاق الثورة الصناعية في العالم الحديث ، قد شهدا نوعاً من الفكر الاجتماعي راح يناقض بين النمو و بين الدين ، إلى حدود تخيّل الواحد بديلاً من الآخر او مُعطِّلاً له كاملاً و نهائياً . إنه الفكر الماركسي الذي أبى، و تجبّر ، و الذي صوّر المادة أساساً للروح قالباً جوهر الوجود رأساً على عقب. و هو الفكر الذي سقط بما جاء نظرياً و عملياً ، و الذي كان سقوطه عظيماً . و في المقابل ، فإن لنا عند أهل الإيمان ، و بخاصة عند من نتطلع اليوم إلى فيض عطاءاته ، أي سماحة الإمام موسى الصدر بالذات ، مما يقوّم إعوجاج تلك الأفكار القاصرة عن الحق ، إذا ما سمعنا و على سبيل المثال ، كلامه في خطبة له يوم عيد الأضحى للعام 1974 في أحد مساجد صور حيث قال : « إنّ تجاهل آلام الناس و حاجاتهم نوع من الكفر و صورة أخرى عن الإلحاد » . أفليس في هذا الإدراك النير برهاناً على ان الدين ، هو سند للتنمية وينبوع لها في الأفكار و في القلوب ؟
أما في سياق العصر الحديث ، فيبرز أمامنا واضحاً خطر ضياع التنمية ، ما لم تقترن بروح دينية تُوجِّهُ مسيرتها نحو الغايات التي يجب ان ترسم لها . فها هي العولمة اليوم تطلق العنان ، على مستوى الأرض كلها ، للقوى المادية الغاشمة ، لتفرض على التنمية ان تخدم القادرين و الأغنياء ، و أن تضمن لهم مصالحهم على حساب المستضعفين و الفقراء غير تاركة لهؤلاء أية فرصة للتقدم أو الازدهار ، ما يقود العالم من جراء هذا المنحى إلى عجز قاتل عن فرض المساواة بين أفرقاء التنمية و طالبيها. فمن يقوّم الإعوجاج ما لم تكسر حلقته الجهنمية كوكبة من القيم السامية التي تدعو إلى العدل في الأرض ، و إلى التضامن الحق ، و إلى كبت جماح الأهواء على أنواعها ؟ ، لهذا قيل أن القرن الحادي و العشرين إما أن يكون متديناً و إما ألا يكون . بهذه الروح السمحة أيضاً ذكّر سماحة الإمام في خطبته إياها لعيد الأضحى : « أن السماء عندما أمرت إبراهيم بذبح شاة لها بدلاً من ابنه ، إنما هي أمرت بتقديم المال قرباناً في سبيل الله ؛ ما يعني أنّ المال إذا صرف في سبيل مصلحة الناس يصبح نعمة عظيمة على الإنسان ، أما إذا صان الإنسان المال و قدّسه ، فيصبح طاغياً على كل شيء و وسيلة لنزع الرحمة من القلوب ».
لاتنمية إذاً ، خارجاً عن الدين و لاسبيل إلى تحقيقها ، إذا ما فقدت بعدها الديني لأنها تفقد إذ ذاك جوهرها الإنساني برمّته. على أن هذا البعد الإيماني للتنمية يضمن لها أيضاً بعدها الاجتماعي المطلوب ، و يؤسس لهذا البعد الثاني فكراً و عملاً. لكن البعد الاجتماعي للتنمية يواجه اليوم مشكلات شديدة التعقيد نتيجة لما بات يسمى بحضارة الاستهلاك ولنوع من الاقتصاد مبني على التنعم الفردي بخيرات الأرض وطاقاتها. فأنت إذا ما رحت تستهلك الأشياء استهلاكاً ، لن تسأل عن قدرة غيرك و لا عن طول يده إلى ما تطال يداك . و لعلّ قدرة غيرك في هذا السبيل تهدد مصالحك في التنعم بالكون و التصرف به على هواك .
فحضارة الاستهلاك تبنى على فردية شرسة ، و هي نقيض للعيش المجتمعي السليم ، حيث الشراكة في الرزق و في الحب و في العطاء . و إن لغطاً كبيراً يحصل اليوم بين الحرية و كرامة الإنسان و حقوقه من جهة و بين الفردية في حياته و التفرد في معاطاته من جهة أخرى . فالإنسان الحر هو في الوقت عينه إنسان مجتمعي ، هو عنصر من عناصر تكوينه كما اللغة و التعاطي و الحاجة إلى الآخر عطفاً و تعاطفاً . و هذا ما يدعنا نقابل في مجال التنمية تلك النزعة الاستهلاكية للاقتصاد بتوجه معاكس تضامني ، سواء على مستوى الجماعات المحلية أم على مستوى الأمم و الشعوب . فتسود في الأرض بهذا المنحى روح من الأخوّة ، تحول سكناها إلى نعيم ، و تمكنها من التفلت من براثن التنازع المميت.
و من هذا المنطلق يبرز البعد الثالث و الأخير للتنمية ، و هو ما تدعونه بحق البعد المعرفي . فالمعرفة المطلوبة لفعل التنمية ، لاتكتفي بتفحص قوانين الطبيعة لتسخيرها . بل هي تسبر أيضاً غور حقيقة الإنسان في ذاته الشخصية و المجتمعية و الكلية على حد سواء . و هي تتطرق أيضاً للتوازنات المطلوبة بين الفرد و المجتمع ، و بين الوطن و المواطنين و بين الحضارات المتنوعة و الشعوب في أمانيها المشروعة لذاتها و في الأماني المشروعة للكون برمّته. إنها معرفة تبدأ و لاتنتهي و هي اعتراف بالذات وب الآخر و بالتناغم المبدع بين كليهما.
في كل هذه الجهود نعود أيضاً إلى روح الدين لإنقاذ الحضارات من العبث بعضها ببعض و لخلاص المجتمعات من التجاهل ، الذي تقع عرضة له في علاقاتها المتبادلة. فالناس لم يقبلوا جميعاً دعوتهم إلى أن يتعارفوا أمماً و قبائل ، كما أنهم لم يقبلوا المشاركة بخيرات الأرض الواحدة استعداداً للمشاركة بنعيم السماء ، التي هي واحدة أيضاً. و هل من مناص في مثل تلك الحالات الشاذة من انتفاضة للمحرومين ، كما أطلقها سماحة الإمام الصدر أو من ثورة للمستضعفين ، كما أرادها الإمام الخميني ، من أجل أن يكون لكل شعب حقه إلى مائدة التنمية البشرية الكبرى. لقد كانت للغرب ثوراته أيضاً على المظالم و نزعاته المشهورة من أجل الإنسانية المتصالحة و الأخوة المتكاملة. أفلا يعود الناس إلى ربّهم شرقاً و غرباً ، فينتقلوا من خضمّ الثورات إلى فردوس التلاقي و الحوار و المحبة التي باسمها جاؤوا جميعاً إلى الوجود ؟ ، و نحن على يقين بأنّ تلبية هذه الدعوة من قبل الجميع ستكون في الخلق قمّة التنمية ، و آية في الإنسانية الكريمة الصافية و السلام عليكم.
نيافة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير
التنمية الإنسانية - السيدة رباب الصدر(1)
التنمية الإنسانية - السيدة رباب الصدر(2)