من زارها عارفا بحقها
عن الإمام الصادق سلام الله عليه قال: «إن لله حرماً وهو مكة، وإن للرسول صلّى الله عليه وآله حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المۆمنين سلام الله عليه حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم. وستُدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة». البحار ج60 ص216.
ولا يخفى ما في هذا الخبر من دلائل مهمة تشير إلى عِظم شأن السيدة فاطمة المعصومة وكرامتها عند الله عزّوجلّ وأهل البيت سلام الله عليهم، حيث بشَّر الإمام الصادق سلام الله عليه بها قبل ولادتها بسنين، وعبَّر عن البلدة التي تنزل فيها بحرم آل الرسول سلام الله عليهم مقابل حرم الله عزّوجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله و أمير المۆمنين سلام الله عليه. كما بشّر زعيم المذهب الإمام الصادق سلام الله عليه زائر السيدة المعصومة بالجنة وأخبر أنه ستكون لهذه السيدة الجليلة زيارة تكون وسيلة لتحصيل الجنة ورضا الله تعالى؛ ما يكشف عن عِظم مقام هذه الزيارة وجزيل ثوابها.
ولا يخفى أن الروايات المطلقة الدالة على أن من زارها له الجنة تُخصِّص بقول الإمام الرضا سلام الله عليه حيث قال: عارفاً بحقّها، ولكن ما معنى قوله سلام الله عليه (عارفاً بحقّها)؟ فهي ليست من المعصومين الأربعة عشر حتى نقول: المراد من العبارة أن يعرف أنها مفترضة الطاعة كما في بقية الأئمة المعصومين سلام الله عليهم، فما المراد من هذه العبارة؟
إن هذه العبارة أيضاً من خصائص السيدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها، فمن بين بنات المعصومين ـ كما هو معروف ـ لم تصل إلينا زيارة حتى تشترط زيارتهن مع المعرفة ليشاركن السيدة المعصومة بهذه الخصوصية، ولذا نضطر حتى نفهم المراد من هذه العبارة إلى طرح الاحتمالات القريبة من هذه العبارة ومنها أن يكون المراد منها عارفاً بمكانتها الرفيعة ومنزلتها العظيمة عند الله تعالى وأهل البيت سلام الله عليهم وبأنها من أبواب الله التي يتوجه إليها العباد في التوسل إليه في شتى أمور دنياهم وآخرتهم. ويۆيد هذا المعنى ما ورد في زيارتها سلام الله عليها من القول: «يا فاطمة اشفعي لي في الجنة، فإن لك عند الله شأناً من الشأن»، فمن يزورها ويعتقد أنها شفيعة في الجنة ولها من الشأن ما لا يدركه إلا أهله ويقدّمها بين يدي الله عزّ وجلّ وأهل البيت سلام الله عليهم كشفيعة له في الدخول إلى الجنة فإنه لا ريب يدخل جنة عدن التي وعدها الله تعالى عباده المكرمين.
وعلى كل لنقتصر على هذا المقدارمن الحث على زيارتها ونشرع بالتأمل في بعض النكات المهمة في زيارتها سلام الله عليها لندرك عظم ما ورد في حق هذه السيدة الجليلة على لسان سلطان الدنيا والدين أبي الحسن الرضا سلام الله عليه، ومن ذلك:
الإمتداد الرسالي:
فقد بدئت الزيارة الشريفة بالسلام على صفوة من الأنبياء وهم: أبو البشر آدم، وشيخ الأنبياء نوح، وخليل الله إبراهيم، والكليم موسى والمسيح عيسى، وهذا إنما يشير إلى تأكيد العلقة وإثباتها بين سلسلة الأنبياء على نبينا وآله وعليهم السلام وبين هذه السيدة الكريمة، فهي من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي، وإلا فما معنى تقديم السلام على الأنبياء عند زيارة هذه السيدة الجليلة؟ وما علاقتها بهم؟
والملفت للانتباه أنه بعد السلام على هۆلاء الصفوة من الأنبياء بلُغة الغائب يتغيّر لحن الخطاب إلى الخطاب المباشر، حيث نقول بعد ذلك: السلام عليكَ يا رسول الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا صفيَّ الله، السلام عليك يا محمد بن عبدالله خاتم النبيين.... إلى بقية الأئمة الأطهار سلام الله عليهم الذين نسلّم عليهم واحداً بعد الآخر بلسان المخاطب، وهذا إنما يشير إلى أن المسلَّم عليها هي من هذا البيت نفسه، ولذلك نسلّم عليهم بلسان المخاطب، فالمزور هومن هذا البيت الطاهر الذي اصطفاه الباري تعالى لنفسه واختاره مهبطاً لوحيه وانتخب أهله خزنة لعلمه وتراجمة لوحيه ووكلاء عنه في أرضه.
بعبارة أخرى: إننا عندما نزور هذه السيدة الجليلة فإنما نزور شخصية لها ارتباط عظيم بالرسول الأكرم وأمير المۆمنين وبقية الأئمة الأطهار سلام الله عليهم لذلك نسلم عليهم جميعاً بلسان المخاطب.
فمن الطبيعي أننا لو عرفنا من نزور ومقامه لاختلفت حالتنا في الزيارة تماماً عما لو كنا لا نعرف شيئا عن الشخصية التي نزورها، ولذا أكدت الأخبار مسألة المعرفة، وفي زيارة السيدة المعصومة عرَّفت بعض فقرات الزيارة شخصية هذه السيدة الجليلة ونسبها العظيم وهي: {... السلام عليكِ يا بنت رسول الله، السلام عليك يا بنت فاطمة وخديجة، السلام عليكِ يا بنت أمير المۆمنين، السلام عليكِ يا بنت الحسن والحسين، السلام عليكِ يا بنت ولي الله، السلام عليكِ يا أخت ولي الله، السلام عليكِ يا عمة ولي الله، السلام عليكِ يا بنت موسى بن جعفر ورحمة الله وبركاته}.
فكل من يقرأ هذه الفقرات تغمره حالة الإجلال والتعظيم للشخصية التي يزورها، فهو يزور بنتاً من بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولا ضير في ذلك فهي حقيقةً تنتسب إليه، يدلّ على ذلك مناظرة الإمام الكاظم سلام الله عليه مع هارون العباسي لما سأل منه قائلاً: لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ويقولون لكم: يا بني رسول الله وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء والنبي جدّكم من قِبل أمّكم؟ فأجابه الإمام الكاظم سلام الله عليه: لو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله نُشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقال الإمام الكاظم سلام الله عليه: لكنه لا يخطب إليّ ولا أزوّجه. فقال: ولم؟ قال سلام الله عليه: لأنه ولدني ولم يلدك. فقال هارون: أحسنت يا موسى، ثم قال: كيف قلتم إنا ذرية النبي والنبيُّ لم يعقّب وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنت ولد الإبنة ولا يكون لها عقب؟ فأجابه الإمام بقوله تعالى:(ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى)، من أبو عيسى؟ فقال هارون: ليس لعيسى أب. قال الإمام سلام الله عليه: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء من طريق مريم، وكذلك ألحُقنا بذراري النبي من قبل أمنا فاطمة. ( البحار ج48 ص127-128). والمثير في الزيارة أنها قدمت السلام على الصديقة الزهراء والسيدة خديجة بعد السلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله مباشرة ثم تلاها السلام على أمير المۆمنين سلام الله عليه والحال أن السلام ـ بعد السلام على النبي صلّى الله عليه وآله كما في كثير من زيارات الأئمة الأطهار سلام الله عليهم ـ يأتي مباشرة على وصيه أمير المۆمنين سلام الله عليه. وهذه من خصائص زيارة السيدة المعصومة سلام الله عليها الحرية بالتأمل والتحقيق.
أما السلام عليها بكونها بنتاً للحسن والحسين فهذا أيضا لا يخلو من نكة دقيقة؛ إذ من المعلوم كونها بنتا للحسين أما كيفية كونها بنتاً للإمام الحسن وهل الإجابة عليه بأنها من ذرية الإمام الباقر - المولود من السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن سلام الله عليه فتكون السيدة المعصومة بنتاً للإمام الحسن سلام الله عليه حقيقة - وافٍ في المقام؟ فتوكل الإجابة عليه إلى مقام آخر.
الجدير بالملاحظة والتأمل أن الزيارة تعرّف السيدة بأنها بنت ولي الله وأخت ولي الله وعمّة ولي الله، ومع ذلك يتكرر السلام عليها هكذا: السلام عليك يا بنت موسى بن جعفر ورحمة الله وبركاته، فلماذا هذا التصريح بالسلام عليها بكونها بنت الإمام موسى بن جعفر؟ أوليس السلام عليها ببنت ولي الله كافياً؟ وإذا أجيب بأنه غير كاف فلماذا لم يتكرر السلام على أخيها كذلك بذكر اسمه، كأن يقال: السلام عليك يا أخت الإمام علي بن موسى الرضا مثلاً؟ ولماذا لم يسلم عليها بـ«عمة الإمام الجواد» أيضاً؟ تبقى مثل هذه التساۆلات تثير كل من يتمعن في زيارة هذه السيدة الجليلة.
بركات معرفة أهل البيت سلام الله عليهم:
لمعرفة أهل البيت سلام الله عليهم آثار وبركات كثيرة في الدنيا والآخرة، والشواهد على ذلك لا تعدّ ولا تحصى، ويلاحظ في زيارة السيدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها التأكيد والإشارة إلى المعرفة في أكثر من مرة؛ ما يدلّ على أهميتها، فلقد جاء في الزيارة الشريفة: عرّف الله بيننا وبينكم في الجنة ... ونقرأ في فقرة أخرى: وأن لا يسلبنا معرفتكم.
وما هذا التركيز على المعرفة إلا لدورها المهم على سلوك الإنسان، فلو أن الناس لم يعرفوا أهل البيت سلام الله عليهم لتاهوا في ظلمات الانحراف وجَرفتْهم تيارات الضياع، بالطبع. ولا شك أن هذه المعرفة ـ كما في الزيارة الشريفة ـ ليست في هذا العالم فقط، بل حتى في الآخرة يكون الناس بحاجة ماسة لمعرفة آل الرسول سلام الله عليهم، وعلى قدر معرفتهم تكون مقاماتهم في الآخرة.
من هنا نصّت الزيارة على أن لا يقتصر الزائر بالطلب من الله عزّوجلّ أن يعرّف بينه وبين أهل البيت سلام الله عليهم في الجنة، بل تغير أسلوب الخطاب من المفرد إلى الجمع بأن يسأل الزائر الله تعالى أن يعرف بين الموالين كافّة وبين أهل البيت سلام الله عليهم في الجنة، وأن يحشرهم معهم ويوردهم حوض الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله والارتواء منه بيد ساقي الكوثر مولى الموحدين أمير المۆمنين سلام الله عليه.
لا شك أن تغيّر الخطاب له دواعيه، ومنها: أنه دعاء، ومن المستحب إذا دعا المۆمن أن يذكر إخوانه الموالين ويشركهم في دعائه ...
ومما يلفت الانتباه في هذه الفقرات من الزيارة أنها فضلاً عن تغيّر لحن الخطاب فيها من المفرد إلى الجمع تۆكد أن يطلب الزائر صفات دلّت الأخبار الشريفة بتوافرها للشيعة يوم القيامة ومنها:
1. التعرف على أهل البيت سلام الله عليهم في الجنة، وقد تظافرت الرويات الشريفة بتحقق هذا المعنى للشيعة.
2. الحشر في زمرة أهل البيت سلام الله عليهم.
3. الورود على الحوض والارتواء من يد أمير المۆمنين سلام الله عليه.
4. السرور والفرج بآل الرسول سلام الله عليهم وذلك على يد منجي البشرية والرجعة المباركة.
5. التقرب إلى الله تعالى بحب أهل البيت سلام الله عليهم والتبري من أعدائهم.
وبعبارة أوضح كأن الزيارة تنصّ على أن يسأل الزائر بجاه هذه السيدة الجليلة بأن يكون من شيعة أهل البيت سلام الله عليهم الذين يتّسمون بهذه الخصال الحميدة.
يا فاطمة اشفعي لي في الجنة:
وفي ختام الزيارة وبعد السلام والدعاء وما مضى من نكات حقيقة بالتأمل يسأل الزائر السيدة معصومة أن تشفع له في الجنة، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أنها تشفع لشيعتها يوم القيامة وتنجيهم من أهوال يوم المحشر، وقد دلّ على ذلك حديث الإمام الصادق سلام الله عليه إذ قال: «ألا إن قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة، بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم». (البحار ج60 ص216).
أليس للأئمة الأطهار سلام الله عليهم الشفاعة لشيعتهم؟ فكيف تكون السيدة المعصومة هي الشيفعة لهم جميعاً؟
إن الأمر غير ممتنع الجمع، فيمكن أن يشفع الأئمة الأطهار للمذنبين من شيعتهم وتشفع السيدة المعصومة لهم أيضاً.
أو قد يقال: إن شفاعة السيدة المعصومة سلام الله عليها في طول شفاعة الأئمة، فبعد شفاعة الأئمة الأطهار سلام الله عليهم تشفع لهم السيدة، ولا إشكال في هذا.
أحاديث حول السيدة المعصومه (عليها السلام )