تبعات الديكتاتورية واستحقاقات الديمقراطية في الدولة المعاصرة
ينطوي مفهوم الدولة العصرية ـ المعاصرة ـ contemporary state على معان ودلالات عديدة، ذات أبعاد ومضامين سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
وهذه الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، تمثل الأطر والركائز الأساسية للبناء الإستراتيجي للدولة، والتنظير لذلك البناء مهما كان عميقا وموسعا وشاملا يبقى غير ذي قيمة اذا لم ينعكس عمليا على أرض الواقع، أي بعبارة أخرى ان نعثر له على مصاديق في مختلف الجوانب والمجالات الحياتية والاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية.
ولعل الحديث عن الاستراتيجية الوطنية الصحيحة يستدعي التمييز بين نوعين او نموذجين للدولة، نموذج الدولة الاستبدادية - الشمولية، والاخر نموذج الدولة الديمقراطية.
ولاشك ان الاختلاف بين النموذجين كبير جداً، وربما يصعب الوقوف على أوجه تشابه ونقاط التقاء بين النموذجين، اللهم إلا اذا كان نموذج الدولة الديمقراطية نموذجا زائفا لايتعدى نطاق الشعارات والمفردات والمفاهيم النظرية.
هل هناك استراتيجية حقيقية في نموذج الدولة الاستبدادية ـ الشمولية authoritarian state؟.
الاجابة عن التساؤل الانف الذكر، من شأنها بيان جانب من اوجه الاختلاف، والتمييز بين النموذجين.
ولأول وهلة يمكن القول ان قراءة سريعة لتجارب الانظمة الاستبدادية- الشمولية، توصل الى استنتاج مفاده أنه ليس هناك استراتيجيات مدروسة وموضوعة ومصاغة بدقة وعمق، وعلى ضوء احتياجات ومتطلبات وضرورات الواقع.
ففي تلك الأنظمة والدول، هناك قدرا كبيرا من الاستئثار والاحتكار للقرار في ما يتعلق بمختلف القضايا المهمة والمصيرية، وهناك استحواذ على جزء كبير من الموارد والثروات من قبل أقلية حاكمة، ذات صبغة اما حزبية أو عشائرية أو عائلية أو مناطقية، وهناك سياسات ومناهج متقلبة ومتذبذبة، يحكمها المزاج والمصلحة الخاصة أكثر منها المصالح الوطنية العامة.
وغالبا ما تجد المجتمعات الخاضعة لأنظمة استبدادية شمولية نفسها في خضم نزاعات وصراعات وحروب داخلية وخارجية، تستنزف الموارد والطاقات والإمكانيات المادية والبشرية للبلاد، وتبدد فرص التعايش السلمي مع الاطراف الاخرى، وتزيد من الاحتقانات السياسية وغير السياسية، وتعمق اجواء ومناخات التوجس وعدم الثقة.
وزوال مثل تلك الانظمة من غير الممكن أن يتم بصورة طبيعية وفق سياقات التداول السلمي والهادئ والسلس، لذلك فإنه يفضي الى هزات وصدمات واختلالات اجتماعية وأمنية وسياسية، تعد نتاجا طبيعيا لمنهجيات خاطئة، وممارسات منحرفة.
والنظام النازي في المانيا، والفاشي في ايطاليا، والنظام العسكري في اليابان، قبل وابان الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، والانظمة الشمولية في المعسكر الشرقي، وكثير من النظم التي حكمت ـ وما زالت تحكم ـ عددا من دول اميركا اللاتينية وآسيا وافريقيا والعالم العربى، مثلت نماذج وعينات صارخة للدول والأنظمة الاستبدادية الشمولية، ومصداقا لانعدام الاستراتيجيات وخلل السياسات، تجلى بأوضح صوره بعد زوالها وسقوطها.
وازاء ذلك فانه ليس غريبا ان نلمس فارقا كبيرا في مستويات التنمية والتطور، والحراك السياسى، والحريات العامة بين مثيلات تلك الأنظمة، والانظمة الأخرى القائمة على أسس ديمقراطية، فألمانيا الديمقراطية ـ الشرقية ـ السابقة كانت متخلفة كثيرا عن جارتها المانيا الاتحادية ـ الغربية، ونفس الشيء بالنسبة الى كوريا الشمالية مقارنة بجارتها كوريا الجنوبية، وهكذا بالنسبة لدول تمتلك ثروات وموارد كثيرة، تبددت وتبعثرت واصبحت وبالاً على أبنائها بدلا من أن تكون من عوامل وعناصر النهوض، وادوات ومقومات البناء الصائب والسليم.
ولعلنا نقترب كثيراً من مقاربة النموذجين المتناقضين، حينما نتوقف عند نموذج الدولة الاستبدادية ـ الشمولية في ظل نظام حزب البعث المنحل في العراق، والتأمل في سياقات وظروف تشكلها، ومختلف مراحل ومنعطفات مسيرتها، والطريقة التي تفككت وانهارت عبرها، وما خلفته من تبعات وآثار ونتائج كارثية، تحتاج الى وقت طويل لازالتها.
ومن الواضح جدا ان الانظمة السياسية الديمقراطية التي تأخذ بمبدأ التداول السلمي للسلطة قلما تشهد أو تواجه أزمات ومشكلات سياسية من قبيل الأزمات والمشكلات السياسية التي تواجهها أنظمة منغلقة لا تتغير فيها الوجوه والبرامج والاطروحات الا عبر الانقلابات أو الاغتيالات أو ربما الوفاة الطبيعية للحاكم، وفي الأولى فان القوانين هي التي تحكم وتوجه وتفصل في الخلافات والاختلافات، بينما في الثانية شخص الحاكم، او المجموعة الصغيرة الحاكمة هي التي تقرر وتوجه، وهي التي تضع القوانين والدساتير بالشكل الذي يروق لها وينسجم مع مصالحها ومزاجها.
وقد تواجه الأنظمة الديمقراطية الحديثة العهد مصاعب وعقبات وعراقيل جمة في مختلف الجوانب والمجالات، وهي تسعى الى بلوغ المستويات المطلوبة من الاستقرار السياسى، والرفاه الاجتماعى، والتماسك الأمنى، باعتبار أن كل ذلك يشكل أولويات أساسية بالنسبة لها، وهو ما قد لا تواجهه ـ أو تتجنب الخوض فيه ـ الأنظمة الديكتاتورية، الا أنه على المدى البعيد يثمر عن نتائج ومعطيات ايجابية بالنسبة للنموذج الديمقراطى.
وهذه هي خلاصة فكرة وضع وصياغة الخطط والمشاريع الاستراتيجية المتوسطة والبعيدة المدى ومتابعة تطبيقها، واجراء المراجعات الدورية المستمرة عليها، والوقوف على نقاط القوة والضعف فيها.
فالنظام الديكتاتورى- الشمولى، من الممكن والمحتمل جداً، ان يتعرض للانهيار بعد عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن، وان بدا يتمتع بالاستقرار، ويمسك بزمام الامور بصورة جيدة، بينما النظام الديمقراطى، الذي قد يبدو ضعيفا ومفككا وغير قادر على تلبية الاحتياجات والمتطلبات المختلفة، والتعاطي مع الاستحقاقات المختلفة بمرونة وسرعة، من المستبعد جدا - اذا كانت منطلقاته وخطواته صحيحة وسليمة - أن ينتهي الى التفكك والانهيار، بل على العكس تماما سيكتسب يوما بعد آخر المزيد من مقومات الاستقرار وعناصر القوة، وأدوات التماسك، وبعد عقد او عقدين، يكون في الوقت الذي ينهار ويتفكك النظام الديكتاتورى، قد تغلب على كم كبير من المشاكل والأزمات، وتجاوز تحديات ومخاطر صعبة جدا.