الطائفية في المجتمع - الدين المُحرّف وصناعة الطائفية
الطائفية هي نتاج نظام عقائدي وثقافي مغلق تتم صناعته عبر مراحل، يمكن أن نتصيدها من خلال ملاحظة الآيات التي تعرضت لدور علماء السوء في تحريف الدين وتوظيفه في صناعة الصراعات الدينية. والطائفية كبناء يتأسس على ما يلي:
1. العقلية الإقصائية: وهي تتأسس على ركنين أساسيين: الانغلاق الفكري، وتقديس الانتماء الديني والمذهبي، وإن شئت فقل، هي تتقوم على العقلية المغلقة والأحادية.
ولأن الناس أعداء ما جهلوا، يؤسس الانغلاق الفكري إلى صناعة عقلية عدائية وإقصائية مع الآخر المذهبي، خاصة إذا نُسجت عن الآخر صور مختلقة قائمة على الكذب والتضليل والافتراء.
وقد أشارت آيات القرآن إلى أن ظاهرة الإقصاء والإلغاء مردها إلى الجهل، قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ)، والذي ينشأ من سياسة الانغلاق وعدم الانفتاح على الآخر.
ولأن الجهل وضيق الأفق يمثل أساس العقلية الإقصائية، يعمد علماء السوء والنخبة الدينية إلى إتباع سياسة تجهيل المجتمع وتضليله وفرض حالة الانغلاق الفكري من أجل ضمان بقاء التصورات النمطية عن الآخر الديني والمذهبي.
وهذا ما أشارت له آيات قرآنية في مواطن متفرقة، منها قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (1).
إذ أنها صرحّت بأن عدم تحمل علماء السوء لمسؤوليتهم في البيان والتزامهم طريق الكتمان والتجهيل كان من أجل المحافظة على امتيازاتهم الذاتية: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) .وهكذا فإن تقديس الانتماء المؤسس على الجهل بما يتضمن من الاعتقاد بامتلاك الحق المطلق، ينتجُ النظر للآخر نظرة دونية قائمة على الإقصاء والإلغاء والتوهين. وقد أشارت بعض الآيات القرآنية إلى تقديس اليهود والنصارى لانتمائهم الديني وإلغاء الآخر: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) (2)، حيث جاءت تلك الدعوى عند أهل الكتاب لتعبر عن حالة تقديس الانتماء الديني والمذهبي المؤسسة على الجهل، وما تفرزه من إلغاء الآخر وإقصائه.
وقد تعرضت الآيات القرآنية لمشكلة التقديس والعصبية عند أهل الكتاب، في مثل قوله تعالى : (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (3)، وقد أشارت الآيات إلى ما يلي:
أ: نفي قداسة الانتماء المجرد بعيداً عن الإتباع المنهجي: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
ب: إن الانتماء المنهجي لا يجتمع مع العصبية والتعامل الطائفي مع الآخر: (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) .
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (4)، حيث أشارت الآية إلى أن الثقافة الإقصائية والتي تنتج العصبية هي من صنع علماء السوء، وذلك بحسب ما يدل عليه التعبير: (الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) .
وثمة تأثير متبادل بين الانغلاق الفكري وتقديس الانتماء، إذ أن الانغلاق الفكري ينتج الجهل الذي معه يسهُل تصديق إدعاء الكمال.
وهكذا يدفع الشعور بقداسة الانتماء الديني والمذهبي إلى الانغلاق إذ لا يرى حاجة للانفتاح على الآخر.
2. الإساءة للآخر وتوهينه في عقائده وشعائره ومقدساته ورموزه: وهي دائماً ما تتكئ على غطاء ديني وثقافة إقصائية تبثها النخبة الدينية لاحتكار الحق في قالبها وتوهين الآخر وإهدار حقوقه الدينية. ولذا نجد أن المذاهب ذات السلوك العدواني تؤسس مشروعها الطائفي على فلسفة إقصائية تبرر ممارسة الإساءة والتحزب ضد الآخر.
وبملاحظة سياق آيتي سورة البقرة (113-114) والتأمل في حكمة التقديم والتأخير بين الآيتين الكريمتين يبدو لي أن فيه إشارة إلى أن السلوك الطائفي دائماً ما يبني شرعيته على ثقافة طائفية وإقصائية.
قال تعالى: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (5).
وهذا المقطع يمثل مشهد الإقصاء والتعصب بين الطوائف الدينية وما ينتج عنه من إساءات واعتداءات طائفية بحق الآخر المُختلف. ونلاحظ أنه بعد أن أشارت الآية (113) إلى مشهد التعصب والإقصاء المتبادل بين اليهود والنصارى، توعدت الآية (114) بعدها الذين يمارسون التضييق والتنكيل لمنع الذكر في بيوت الله ويسعون إلى خرابها وإزالتها، ولعله من حِكم التقديم والتأخير ما ذكر.
على أن إساءة كل منهما للآخر المُشار لها في الآية (113) لا تكون إلا في ظل ثقافة متطرفة تحرض على الإقصاء والإلغاء للمُخالف.
والآية الكريمة (26) من سورة الفتح تهدينا إلى رؤى وبصائر في معرفة شخصية المجتمعات الطائفية التي تأخذها الحمية عند الاختلاف، كما ترشدنا إلى معرفة شخصية المجتمعات المؤمنة التي لا يمنعها الاختلاف عن التمسك بمنهج الله.
قال تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (6).
ومنها نستوحي البصائر التالية:
1- قد نسبت الآية الكريمة الجعل إلى الكفار، في قوله تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) لأن ثقافتهم الجاهلية القائمة على العصبية وتقديس السلف وما عليه الآباء والأجداد هي أساس الحمية والاستكبار على الحق والعصبية على حملته.
وجعلُ القلب ظرفاً ومحلاً للحمية لأنه مركز الأهواء والعواطف وسائر الخصال الأخلاقية من فضائل ورذائل.
ومن أشد الرذائل التي تنبت في القلب الأنانية وحب الذات، والتي تمثل الجذر الأساس للعصبية للانتماء والجماعة، والانغلاق على الآخر المُخالف.
وتعبير الآية الكريمة بـ (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) فيه إشارة إلى أن الحمية والعصبية مردها إلى الجهل والثقافة الجاهلية التي تكرس العصبية والكراهية للمُخالف.
والجهل هنا في قبال العقل، حيث غلبة الأهواء وحب الذات والتعصب والتحزب، الأمر الذي يمنع من الانفتاح على الحق ونقد الذات والانتماء، ويدفع نحو العدوان والإساءة للآخر المذهبي في عقائده وشعائره ورموزه.
كما يستفاد ذلك من الآية الكريمة (25) وما أشارت إليه من صد كفار قريش للمؤمنين عن المسجد الحرام ومنعهم إياهم عن أداء شعيرة الحج.
2- وكلمة التقوى التي ألزم الله سبحانه المؤمنين بها هي التي تخرج الفرد من سجن التحزب للانتماء وتحرره من قيود الأنا والحمية والعصبية، فيتمكن من النقد والحوار البناء والتقييم الموضوعي للمذهب والطائفة.
اعداد و تقديم : سيد مرتضي محمدي
القسم العربي - تبيان
الهوامش
(1) سورة آل عمران، 187
(2) سورة البقرة، 111
(3) سورة البقرة، 135-136
(4) سورة آل عمران، 23-24.
(5) سورة البقرة، 113-114
(6) سورة الفتح، 25-26.
العلمانية من الألوان الفكرية المعاصرة
العدالة في أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر
الخطوطً الجليّة والواضحة للحاكم الإسلامي
لماذا تأخر المسلمون عن مواكبة العصر الراهن؟
معنى الأمة وعلى من تطلق