الصفات الفعلية – التَّكلُّم
أجمع المسلمون تبعاً للكتاب و السنَّة على كونه سبحانه متكلماً ، و يبدو أنَّ البحث في هذا الوصف هو أوّل مسألة طرحت على بساط المناقشات في تاريخ علم الكلام و إن لم يكن أمراً قطعياً ، و قد شغلت مسألة الكلام الإِلهي ، و أنّه ما هو ، و هل هو حادث أو قديم ، بال العلماء و المفكّرين الإِسلاميين في عصر الخلفاء ، و حدثت بسببه مشاجرات بل صدامات دامية ذكرها التاريخ و سجل تفاصيلها ، و عرفت بـ « محنة خلق القرآن» ويمكننا أن نلاحظ لذلك عاملين رئيسيين:
الأوّل: الفتوحات الإِسلامية التي أوجبت اختلاط المسلمين بغيرهم ،و صارت مبدأً لاحتكاك الثقافتين الإِسلامية و الأجنبية . و في ذلك الخضمّ المشحون بتضارب الأفكار طرحت مسألة تكلمه سبحانه في الأوساط الإِسلامية.
الثاني : ترويج الخلفاءالبحث عن هذه المسألة و نظائرها حتى ينصرف المفكرون عن نقد أفعالهم و انحرافاتهم.و لا بدّ من التنبيه على مصدر بث هذه الفكرة بالخصوص فنقول : إِنَّ البحث في حقيقة كلامه سبحانه أوّلاً ، و كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، حادثاً أو قديماً ثانياً ، ممّا أثاره النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي ، و على رأسهم يوحنا الدمشقي الذي كان يشكّك المسلمين في دينهم ، فبما أنّ
القرآن نصّ على أنَّ عيسى بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم ، صار ذلك وسيلة ؛ لأن يبث هذا الرجل بين المسلمين قِدَم كلمة الله عن طريق خاص ،وهو أنّه كان يسألهم : أكلمة الله قديمة أو لا؟.
فإنْ قالوا: قديمة.
قال: ثبت دعوى النصارى بأنَّ عيسى قديم.
و إن قالوا: لا.
قال: زعمتم أنَّ كلامه مخلوق.
فلأجل ذلك قامت المعتزلة لحسم مادة النزاع ، فقالوا: إِنَّ القرآن حادث لا قديم ، مخلوق لله سبحانه.
ولمَّا لم تكن هذه المسألة مطروحة في العصور السابقة بين المسلمين تشعبت فيها الآراء و تضاربت الأقوال ، حتى لقد صدرت بعض النظريات الموهونة جداً كما سيأتي . لكن نظرية المعتزلة لاقت القبول في عصرالخليفة المأمون إلى عصر المتوكل ، إلاّ أنَّ الأمر انقلب من عصر المتوكل إلى زمن انقضاء المعتزلة لصالح أهل الحديث و الحنابلة.
و في الفترتين وقعت حوادث مؤسفة ، و أريقت دماء بريئة ، شغلت بال المسلمين عن التفكر فيما يهمهم من أمر الدّين و الدّنيا ، و كم لهذه المسألة من نظير في تاريخ المسلمين!!.
و قبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:
الأوّل : إِنَّ وصف الكلام عند الأشاعرة و الكلابيّة - الذين أثبتوا لله كلاماً قديماً - من صفات الذات ، بخلاف المعتزلة و الإِمامية فهو عندهم من صفات فعله ، و سيوافيك الحق في ذلك . و قد حدث ذلك الاختلاف من ملاحظة قياسين متعارضين ، فالأشاعرة تبعوا القياس التالي:
كلامه تعالى وصف له ، و كل ما هو وصف له فهو قديم ، فكلامه تعالى قديم . و أمّا غيرهم فقد تبعوا قياساً غيره ، و هو: كلامه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متفاوتة متعاقبة في الوجود ، و كل ما هو كذلك فهو حادث ، فكلامه تعالى حادث.
و الأشاعرة: - لأجل تصحيح كونه قديماً - فسَّروه بأنَّه معنى قائم بذاته يسمّى الكلام النفسي . و المعتزلة و الإِمامية أخذوا بالقياس الثاني ، و قالوا إِنَّ معنى كلامه أنَّه موجد للحروف و أصوات في الخارج ، فهو حادث.
و لبعض الحنابلة هنا قول آخذ بكلا القياسين المتناقضين حيث قالوا إنَّ كلامه حروف و الأصوات قائمة بذاته و في الوقت نفسه هي قديمة ، و هذا من غرائب الأقوال و الأفكار.
الثاني: إِنَّ تفسير كونه سبحانه متكلماً لا ينحصر في الآراء الثلاثة المنقولة عن الأشاعرة و العدلية (المعتزلة و الإِمامية) و الحنابلة ، بل هناك رأي رابع أيدّته البراهين الفلسفية ، و أوضحته النصوص القرآنية ، وورد في أحاديث أئمة أهل البيت ، و حاصله: إِنَّ العالم بجواهره و أعراضه ، فعلُه و في الوقت نفسه كلامُه ، و سوف يوافيك توضيح هذه النظرية.
الثالث : إِنَّ الطريق إلى ثبوت هذه الصفة عند الأشاعرة هو العقل ، و عند العدلية هو السمع ، و سوف يوافيك دليل الأشاعرة عند البحث عن نظريتهم .
و أمَّا النقل فقد تضافرت الآيات على توصيفه به ، قال تعالى: { مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } (1). و قال تعالى: { كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) . و قال سبحانه: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } (3). و قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (4). و قد بَيَّن تعالى أن تكليمه الإنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:
1ـ « إلاّ وحياً ».
2ـ « أو من وراء حجاب ».
3ـ « أو يرسل رسولاً ».
فقد أشار بقوله: { إِلاَّ وَحْيًا } إلى الكلام المُلقى في روْع الإنبياء بسرعة و خفاء.
كما أشار بقوله: { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } إلى الكلام المسموع لموسى ـ عليه السَّلام ـ في البقعة المباركة . قال تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (5).
و أشار بقوله{ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً }إلى الإِلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي ، قال سبحانه : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (6). ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو الله سبحانه تارة بلا واسطَة بالإِلقاء في الرَّوْع ، أو بالتكلم من وراء حجاب بحيث يُسمع الصوت و لا يُرى المتكلم ، و أُخرى بواسطة الرسول . فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.
الرابع: في حقيقة كلامه سبحانه.
قد عرفت أنه لا خلاف بين المسلمين في توصيفه سبحانه بالتكلم ، و إنّما الخلاف في حقيقته أوّلاً ، و يتفرع عليه حدوثه و قدمه ثانياً ، فيجب البحث في مقامين.
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني
ــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) سورة البقرة: الآية 253.
(2) سورة النساء: الآية 164.
(3) سورة الاعراف: الآية 143.
(4) سورة الشورى: الآية 51.
(5) سورة القصص: الآية 30.
(6) سورة الشعراء: الآيتان 193 و194.
مقارنة بين صنع الله وصنع البشر لتوضيح معنى المعرفة الفطرية(2)
مقارنة بين صنع الله وصنع البشر لتوضيح معنى المعرفة الفطرية(3)
الماركسية واللاأخلاق
نشأة العرفان و التصوف عند المسلمين
طريقة إثبات الإسلام والشرائع السابقة
علم الكلام و رصد الحركات الإلحادية
الوجودية عند المعتزلة