القران وتربية الإنسان عقليا
ينبغي للعقل أن يكون غربالاً
...لدينا رواية معروفة في باب (العقل والجهل) من كتاب الكافي والبحار وتحف العقول1، وقد نقلها هشام بن الحكم2 المتكلم الشهير عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مخاطباً هشاماً وهي رواية مفصلة، وفيها يستند الإمام على قوله تعالى في سورة الزمر: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَاد * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ3 ﴾، إنها آية عجيبة، فيا ترى هل أن هؤلاء يصدقون بكل ما يسمعونه وينفذونه؟ أو أنهم يرفضونه مرة واحدة؟
إنهم يستمعون الكلام وينتقدونه ويزنونه فينتخبون أحسنه ويتبعونه، ثم يقول تعالى أولئك الذين هداهم الله، أي ألهمهم الاستفادة من قوة العقل.
قال الإمام لهشام: يا هشام إن الله تعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَاد * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...﴾.
يظهر من هذه الآية والحديث بشكل كامل أن أبرز صفات العقل الإنساني هي التمييز والفرز، فرز الكلام الصادق عن الكاذب، والضعيف عن القوي، والمنطقي عن غير المنطقي، والخلاصة: إنه يقوم بعملية غربلة للكلام، لا يكون العقل عقلاً ما لم يكن غربالاً يزن كل ما يرد عليه ويغربله فيرمي ما لا ينفع خارجاً ويحتفظ بما ينفع.
هناك حديث عن الرسول الأكرم، ناظر إلى هذا المطلب يقول: "كفى بالمرء جهلاً أن يحدث بكل ما سمع"4، توجد عند البعض خاصية المسجل، يمتلئون بكل ما يسمعون، وبعد ذلك يكررونه في محل آخر دون أن يشخص أن ما سمعوه كان صحيحاً أم خاطئاً.
قلت سابقاً: هناك بعض العلماء أقل عقلاً مما علموه، فهم علماء بمعنى أن لديهم معلومات كثيرة، لكنهم عاقلون بنحو أقل، لأنهم يجمعون كل شيء أينما يرونه وينقلونه بأجمعه دون أن يتدبروه، ليروا هل أنه يتلاءم مع الواقع أم لا؟ والعجيب أنه مع وجود روايات تقول: إن الراوي ينبغي أن يكون ناقداً، وأن لا ينقل كل ما سمعه، نرى الكثير من هؤلاء المحدثين والرواة والمؤرخين لا يراعون هذه القاعدة.
انتقاد ابن خلدون
أحد الانتقادات التي يوجهها ابن خلدون في مقدمة تاريخه لبعض المؤرخين أنهم يبحثون عن صحة السند فقط في نقلهم التاريخ، يقول: قبل هذا ينبغي أن نبحث في صحة المضمون، فلابد أولاً من التفكير في أن هذا المطلب هل ينسجم مع المنطق أو أنه لا ينسجم، ثم يمثل لذلك بقوله: إنهم كتبوا أنه عندما اجتاز قوم موسى عليه السلام البحر وتعقبهم الفراعنة كانوا مائتين وخمسين ألف رجل محارب، ولابد من تمحيص هذا الأمر، فإن بني إسرائيل كلهم أولاد يعقوب وهو شخص واحد، ولم يمض عليه خمسة أو ستة أظهر (164 سنة) وذكروا أيضاً أنها (400) سنة فحتى لو مضى (400) سنة فإذا قلنا أن عددهم (250000) ألف رجل محارب فلابد أن يكون عددهم في الأقل مليون شخص ربعهم جنود مع أن فرعون كان يقوم بقتل أبنائهم: ﴿ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ وهذا أمر غير مقبول عقلاً.
يقول ابن خلدون: إن المؤرخين لم يلتفتوا إلى أن هذه الواقعة التي ينقلونها تلائم المنطق أم لا؟
سمعت في يوم من واعظ مشهور يريد أن يبين كيفية انقراض بني أمية، وكيف أن الله بارك في ذرية الحسين، فقال: لم يبق للحسين عليه السلام إلا ولد واحد وهو الإمام علي بن الحسين عليه السلام، ومنه جميع السادة الحسينيين والموسويين والرضويين، وهم بالنتيجة حسينيون أيضاً، ولم يبق أحد من بني أمية، ثم قال عن بني أمية:
في سنة (61) للهجرة التي وقعت فيها واقعة الطف كان هناك ألف مهد ذهبي في بيوت بني أمية، والآن يجب علينا أن نحسب كم هو عدد بني أمية؟ كم مهداً يوجد في بيوتهم؟ وما هو عدد الذهبي منها؟
كان السيد الخوانساري يسخر من هذه النقولات ويقول: أجل كانت هراة في يوم ما كبيرة جداً وكان فيها (2.000) شخص أحول اسمه أحمد يطهو رؤوس الأغنام (باجة)، والآن عددوا كم طباخاً كان في المدينة ليكون من بينهم ذلك الرقم الهائل من الطباخين الذين يتصفون بالصفات المذكورة.
قرأت يوماً في كتب التاريخ المتداولة التي كتبها أشخاص كبار: إنه في واقعة الحرة أحدثوا القتل الذريع في المدينة، وقد دخلوا بيت شيخ من أهل المدينة وكان من الأنصار وكانت عائلته فقيرة وامرأته قد وضعت حملها قريباً، وكانت راقدة في الفراش والطفل في مهده، فدخل رجل شامي ليأخذ شيئاً من هذا البيت، فتوسلت به المرأة قائلة: أنا زوجة فلان أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد بايعنا رسول الله في بيعة الرضوان، فلم ينفع ذلك وأخذ الرجل الشامي برجل الطفل وأداره حول رأسه ثم ضرب به الجدار فتناثر مخه.
نقل هذه الواقعة عدد كبير، فهل يكفي هذا في صحتها؟ يعني هل يمكن للمرأة التي بايعت مع زوجها رسول الله في بيعة الرضوان أن تضع حملاً في سنة (63) للهجرة بعد فاصلة زمنية قدرها (58) سنة؟ فلو فرضنا أنها في ذلك الوقت كانت صبية عمرها عشر سنوات متزوجة حديثاً وذهبت مع زوجها لمبايعة الرسول، فأنها تكون الآن في الثامنة والستين من عمرها، فهل يمكن لمن في سنها أن تضع حملاً؟ هذه المسائل بحاجة إلى نقد وتمحيص، فلو فكر الإنسان قليلاً لوقف على مخالفتها للواقع، وهذه هي عملية الغربلة، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : "كفى بالمرء جهلاً أن يحدث بكل ما سمع" الجهل غالباً لا يكون في الأحاديث في قبال العلم، بل يكون في قبال العقل، أي عدم التفكير لا عدم العلم، فيكفي في عدم تفكر الإنسان وتمحيصه للأشياء أن يحدث بكل ما سمع.
نقد الكلام
المسألة الأخرى القريبة من هذا المطلب والتي تستنبط من هذه الآية وبعض الأحاديث هي مسألة تحليل الكلام وعزل العناصر الصحيحة عن العناصر غير الصحيحة، ففرق بين أن يأخذ الإنسان من كلامين الصحيح منهما ويهمل الآخر، وبين تجزئة الكلام بحيث ينتقي الإنسان العناصر الصحيحة، ويفند العناصر الخاطئة فيه بحيث تكون له القدرة على التشخيص في أن يقول: هذا الجزء من الكلام صحيح وهذا الجزء غير صحيح، وهذا هو الأمر الذي عبر عنه في الروايات بالنقد والانتقاد.
عندما يقولون: انتقد الدرهم أو انقد الكلام، يعني: أظهر عيوبه ومحاسنه، فكما أن السكة عندما توضع في المحك ليتعرفوا أنها ذهب خالص، ومقدار عياره، فكذلك نقد الكلام معناه عزل محاسنه عن مساوئه.
لدينا بهذا الشأن أحاديث كثيرة وعجيبة منها أن المسيح عليه السلام قال: "خذ الحق من أهل الباطل ولا تأخذ الحق من أهل الحق" والأظهر أنه يريد أن يقول: لا تلتفت إلى القائل، بل التفت إلى نفس القول، والشاهد على ذلك الجملة الأخيرة حيث قال: "كونوا نقاد الكلام"5.
ثم ينقل الإمام جملاً في هذا الخصوص: يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالإدلاء، فقال: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ... لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 6﴾.
-------------------------------------------------------
المصادر:
1- أصول الكافي، ج1، ص14، تحف العقول، ص384
2- هشام من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام والإمام موسى بن جعفر عليه السلام وكانا يجلانه، وهو من المتكلمين والفضلاء وكان الكثير من كبار متكلمي ذلك العصر الذين يعتبرهم الغربيون من النوابغ من قبيل (النظام) و(أبي الهذيل العلاف) يخضعون لهشام، قال شبلي النعمان في كتاب (تاريخ علم الكلام) إن أبا الهذيل العلاف كان شخصاً يحذر الجميع مناقشته (يعني كان قوياً جداً في الكلام) وان الشخص الوحيد الذي كان يحذره أبو الهذيل هو هشام بن الحكم.
3- سورة الزمر، الآية: 20 لا توجد هنا كلمة سماع، فلم تقل الآية سمع القول أو يسمعون القول، بل قالت: يستمعون القول، أي يدققون في الكلام، فهناك فرق بين السماع والاستماع، فالسماع هو الذي يسمعه الإنسان حتى ولو لم يفهمه، وأما الاستماع فيكون مع الفهم.
4- الجامع الصغير، ج2، ص90 وجاء فيه كذباً وإثماً بدلاً عن جهلاً.
5- بحار الأنوار، ج2، ص96.
6- سورة البقرة، الآيات: 163 ـ 164.
اهل البيت يفسرون بالاستقسام بالأزلام
التفأل بالقرآن
الكلمات الأربع