تربية العقل و تدبر العاقبة
تدبر العاقبة
الشيء الآخر الذي يجب أن تقوم تربية العقل على أساسه هو مسألة الاهتمام بالمستقبل، إذ يستند في التربية الإسلامية استناداً كبيراً على هذه المسألة، وأنه لا ينبغي لكم أن تقيدوا أنفسكم بهذا العصر، بل التفتوا إلى المستقبل، وضعوا نصب أعينكم العواقب والنتائج النهائية للعمل الذي أنتم بصدد فعله.
ثمة حديث مشهور نقلناه عن كتاب (قصص الأبرار) وهو أنه: قد جاء شخص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله عظني، فقال الرسول: وهل ستفعل ما أقوله لك حقاً؟ فقال: نعم، فكرر عليه الرسول جملته، فقال: أجل، فكرر الرسول كلامه للمرة الثالثة، وما هذا التكرار من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا لأنه أراد أن يجعله مستعداً بشكل كامل لما سيقوله له، وما إن أتم ذلك حتى قال له: إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته1، وهذا هو الذي جاء في الأدب الإسلامي بعنوان (تدبر العاقبة) وخاصة في (المثنوي) فقد تطرق لهذه النقطة بكثرة.
"إن الهوى كان مليئاً بالحرص والغبطة، وأما العقل مما يفكر بسوى يوم الدين". "ومن كان ينظر العواقب فهو عاقل وأما من همه علفه فلا دين له".
الشيء الآخر الذي يجب أن تقوم تربية العقل على أساسه هو مسألة الاهتمام بالمستقبل، إذ يستند في التربية الإسلامية استناداً كبيراً على هذه المسألة،
العقل والعلم توأمان
المسألة الأخرى هي وجوب أن يكون العقل والعلم توأمين، وهذه النقطة مهمة للغاية فإن الإنسان الذي يفكر ولكن معلوماته ضعيفة يكون كالمصنع الذي تكون فيه المواد الخام معدومة أو قليلة، فإن انتاجه سيكون قليلاً، لأن الإنتاج موقوف على وصول المادة الخام، وكذلك المصنع الذي تتوفر فيه المادة الخام إلا أنه لا يعمل فإنه يكون مشلولاً وغير منتج.
يقول الإمام عليه السلام في تلك الرواية: "يا هشام ثم بين أن العقل مع العلم" وقد قلنا: إن العلم هو عملية الأخذ، وهو بمنزلة الحصول على المادة الخام، وأما العقل فهو تفكير واستنتاج واستخلاص وتجزئة وتحليل، ثم يستند الإمام على هذه الآية ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾2، أترون كيف تمت الملاءمة بين العقل والعلم.
تحرير العقل من تقاليد المجتمع
الأمر الآخر مسألة تحرير العقل من أن تتحكم به إيحاءات المجتمع المحيط والعرف وتقاليده، أو ما يصطلح عليه اليوم بنفوذ السنن وعادات المجتمع، يقول الإمام عليه السلام: "يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون"، فقال: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾3.
فالقرآن يذم الذين يقيدون أنفسهم بتقليد آبائهم واتباعهم إياهم ولا يفكرون بتحرير أنفسهم من هذا القيد، ما هو هدف القرآن من هذا الذم؟ هدفه هو التربية، يعني أنه هو يريد تنبيه الناس إلى أن المعيار والمقياس يجب أن يكون هو ما يشخصه العقل والتفكير، لا مجرد فعل الآباء، استخرجت يوماً الآيات التي تتحدث عن الاتباع والتقليد فوجدتها كثيرة جداً، والشيء الذي لفت انتباهي فيها أنه ما من نبي دعا قومه إلى الله إلا جوبه بهذا الكلام: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾4، وأنه لماذا تريد صرفنا عن تقاليد آبائنا الماضين؟ مع أن أقوام الأنبياء كانوا يختلفون جداً من حيث الظروف. فكان كل نبي يطرح على قومه مسائل تنسجم مع وضع حياتهم، وكان يواجه مشاكل مختصة بقومه، إلا أنه كان هناك إشكال مشترك ووجه به جميع الأنبياء وهو مصيبة تقليد الآباء والأجداد، وعلى حد تعبيرنا اليوم، إتباع التقاليد وأما الأنبياء فعلى العكس، إنهم كانوا يشحذون عقول الناس ويوصونهم بالتفكير، ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾.
المسألة الأخرى التي تتعلق أيضاً بالتربية العقلائية هي أن حكم الناس على الإنسان يجب أن لا يكون هو الملاك، إن هذه أمراض عامة يبتلى بها الناس من قريب أو بعيد،
الإمام الصادق والتابع للتقاليد
هناك قصة معروفة وهي أن الإمام الصادق ذهب إلى بيت أحد أصحابه أو شيعته وكان بيتاً صغيراً جداً، وكأنه كان من الذين يعلم الإمام الصادق أن حالته تقتضي أن يكون له بيت أفضل فقال له الإمام: لماذا تسكن في هذا البيت؟ "من سعادة المرء سعة داره"5، فقال: يا ابن رسول الله إن هذا بيت آبائي وأجدادي ولا أستطيع مغادرته، وبما أن أبي وجدي كانا فيه، فلا أريد مفارقته، فقال له الإمام: لو كان أبوك جاهلاً فهل عليك أن تقيد نفسك بجهل أبيك؟ اذهب وهيأ لنفسك بيتاً أفضل.
حقا إنها أمور عجيبة، الإنسان من الناحية التربوية لا يلتفت إلى أن الكلمات التي يقولها القرآن إنما يريد بها أن يربي الناس على هذه القواعد.
عدم اتباع الأكثرية
ثم ذكر الإمام موسى الكاظم عليه السلام موضوعاً آخر فقال: "ثم ذم الله الكثرة" فقال: ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّه ﴾ِ6.
وخلاصة القول: التحرر من حكومة العدد وأنه ينبغي أن لا تكون الأكثرية والكثرة هي الملاك، وأن لا ينظر المرء إلى أكثر الناس ويسلك الطريق الذي يسلكونه، ويقول: انه هو الطريق الصحيح، فإن هذا نظير لذلك التقليد، فكما أن الإنسان بطبعه ينقاد إلى تقليد الآخرين، كذلك ينقاد لرأي الأكثرية، والقرآن يرفض هذا المقياس، والدليل على خطئه هو أن أكثر الناس تتبع الظن والحدس لا العقل والعلم واليقين، ويلتصقون بخيوط ظنهم العنكبوتية.
ولذا ورد في كلمات أمير المؤمنين: "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه"7 فقد يكون أمامكم طريقان وتشاهدون الناس يتماوجون كثرة في أحدهما، بينما في الآخر عدد قليل، ففي بعض الأحيان يستوحش الإنسان ويقول: سأسلك الطريق الذي سلكته الأكثرية، وإن ما سيحدث لهم سيحدث لي، والإمام عليه السلام يقول: عليكم أن تشخصوا الطريق، وتشخيصه لا يرتبط بكثرة سالكيه.
عدم التأثر بحكم الآخرين
المسألة الأخرى التي تتعلق أيضاً بالتربية العقلائية هي أن حكم الناس على الإنسان يجب أن لا يكون هو الملاك، إن هذه أمراض عامة يبتلى بها الناس من قريب أو بعيد، فمثلاً لو اختار الإنسان ثوباً معتقداً أنه قد اختار لوناً جميلاً، ثم يأتي آخر ويقول له: ما هذا اللون المضحك الذي اخترته لنفسك؟ وكذلك الثاني والثالث يقولان له الكلام نفسه، فإنه سيعتقد بالتدريج أنه قد اختار ثوباً غير مناسب، وفي بعض الأحيان يقول الناس هذه الأشياء لا لأجل أنهم يعتقدون بها، بل هدفهم أن يغيروا اعتقاد الآخرين فليس من الصحيح أن يتأثر الإنسان في ما يتعلق بشؤونه الخاصة بأحكام الآخرين، لا تقعوا تحت تأثير حكم الآخرين أبداً8.
------------------------------------------------------------------------------
المصادر:
1- بحار الأنوار، ج77، ص130.
2- سورة العنكبوت، الآية:43.
3- سورة البقرة، الآية: 170.
4- سورة الزخرف، الآية: 23.
5- محاسن البرقي، ص60 وفروع الكافي، ج6، ص525 بتعابير مختلفة.
6- سورة الأنعام، الآية: 116.
7- نهج البلاغة، الخطبة: 21.
8 -التربية والتعليم في الاسلام،الشيخ مرتضى مطهري
الكلمات الأربع
الإعراض عن اللغو
لو زاد اليقين لمشينا على الماء !
الاسلام دين الفطرة
حرمة الغناء في القرآن الكريم