• عدد المراجعات :
  • 4017
  • 11/24/2007
  • تاريخ :

يومُ الحجِّ الأكبر
الحجِّ

يصادف «يوم عرفة» من أيام الحج في بعض السنين «يوم الجُمعة».

و تعرف تلك السنة بين الحجّاج ولا سيما أهل السّنة بـ «الحج الأكبر»، وقد دعاني هذا الأمر، للبحث في الآيات والروايات وفي التاريخ ـ أيضاً ـ عن ماضيه وحقيقته، وما سأورده هو نتيجة دراسة، وإن كانت مختصرة، غير أني آمل أن تكتمل بما يُبديه الباحثون والعلماءُ من آراء حول ذلك. يقول ـ الله تعالى ـ في القرآن الكريم : ( وأذانٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى النّاس يومَ الحجّ الأكبرِ أنَّ الله بريءٌ مِنَ المشركينَ ورسولُه )، (1) . وقد اختلف أَهلُ الحديث والتفسير ـ القدماء والجدد ـ حول يوم الحج الأكبر، أَيّ يوم هو؟ واعتقد بعضهم :

1ـ أَنّ المراد مَن الحج الأكبر يومُ عرفة، فقد روي عن ابن عباس و طاووس وعمر وعثمان ومجاهد وعطاء، وسعيد بن المسيب وابن الزبير وأبي حنيفة والشافعي : «أنّ يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر » ، (2). ويقول عطاء : «الحج الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر العمرة »،(3). و روى اسماعيل القاضي حديث لمخرمة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه قال : «يوم الحج الأكبر يوم عرفة »،(4). و روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن مسور بن مخرمة أنه قال :«خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله) عشيّة عرفة، فقال : أما بعد فإنّ هذا يوم الحج الأكبر » ،(5). و روى ابن سعد وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب انه قال : «الحج الأكبر يوم عرفة » ،(6). و أورد جرير روايةً أُخرى عن أبي الصهبا البكري : «أنّ عليَّ بن أبي طالب(عليه السلام)سُئل عن الحج الأكبر؟ فقال : يوم عرفة »،(7). و روى أبو الشيخ عن ابن عباس أيضاً قولَه :«إنّ يوم عرفة يومُ الحج الأكبر، وهذا اليوم يوم المباهاة، واليوم الذي افتخر فيه الله بأهل الأرض أمامَ ملائكة السماء وقال : «جاءوني شعثاً غبراً آمنوا بي ولم يروني وعزتي لأغفرنّ لهم »،(8). و يستدلّ بعض الذين يقبلون هذا القول بالحديث المعروف «الحج عرفة » ويقولون : لما كان الوقوف في عرفة من أكبر أعمال الحج، ومَن أَدركه أدرك الحج، ومَن لم يُدركه فحجّه باطل، فقد سمّى يومُ عرفة يومَ الحج الأكبر،(9) .

2 ـ وترى فئة أُخرى، أنّ يوم الحجّ الأكبر أيام الحجّ كلّها، وتعتقد بأنه كما يقال لـ «وقعة الجمل» و «حرب صفين» و «حرب بعاث» رغم أنّها استمرت أياماً طويلة «يوم صفين» و «يوم الجمل» و«يوم بعاث» و مرادهم من «يوم» مدة الحرب كلّها، فالمراد هنا من «يوم الحج الأكبر» أيام الحج كلها أيضاً ،(10).و يقول الشيخ التَهانَوي : «الحج نوعان : الحج الأكبر وهو حج الإسلام، والحج الأصغر وهو العمرة » ،(11).

3 ـ وترى فئة ثالثة : أنّ الحج الأكبر هو الوقوف في عرفات والأعمال المتعلقة بمنى. يقول عمر بن أُذينة : كتبتُ عدّة مسائل للإمام الصادق(عليه السلام)، ووصلني جوابه بعد مدّة بخطّه المبارك : «... و سألته عن قوله تعالى :(الحجّ الأكبر )، ما يعني بالحج الأكبر؟ فقال : الحج الأكبر الوقوف بعرفة، ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة »،(12). فبناءً على هذه الرواية اعتبرت أعمال عرفة ومنى، الحجّ الأكبر. وروى زرارة عن الامام الصادق(عليه السلام) الجواب نفسه أيضاً حيث قال : «الحج الأكبر الوقوف بعرفة، وبجَمْف ورمي الجمار بمنى، والحج الأصغر العمرة » ،(13).

4ـ و يرى سفيان الثوري وابن جُريج و... أنّ يوم الحج الأكبر كل أيام منى » ، (14).

5ـ و يروي مجاهد رواية أُخرى فيقول : «الحج الأكبر القِران، والأصغر ، الإفراد »، (15). و يروي ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قوله : الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر. أَلا ترى أنّ الإمام يخطب في ذلك اليوم؟،(16) .

7ـ و يقول ابن سيرين : «يتعلّق يوم الحج الأكبر بالسّنة التي أدى فيها الرسولُ(صلى الله عليه وآله) حجة الوداع. وحج معه عدد كبير من الناس » ، (17). و يمكن لهذا القول أن يعتبر تأييداً لأولئك الذين يعتبرون يوم الحج الأكبر يوم الأضحى; ذلك أن الرسول(صلى الله عليه وآله) خطب في هذه السنة بالناس في منى، وسألهم أيّ يوم يومكم؟ قالوا : يوم النحر، ثم قال : اليوم يوم الحج الأكبر. ويرى ابن عربي أنّ هذا الحديث حسن وصحيح،(18).

8ـ و يروي الطبراني عن سمرة بن جندب قوله : «يتعلّق يوم الحج الأكبر بالسنة التي أدّى فيها المسلمون والمشركون الحج في ثلاثة أيام، لم يؤد مثل هذا الحجّ قبل ذلك ولن يؤدى بعده »، (19). و يروي فضيل بن عياض عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً قوله : «إنّ سبب تسمية الحج الأكبر : أنّ المسلمين والمشركين أقاموا الحج في تلك السنة معاً. ولم يحج المشركون بعدها أبداً ، (20) .و يروي ابن أبي شيبة الزايد عن ابن عون أيضاً : «أنّ محمّداً سئل عن الحج الأكبر فقال : اليوم الذي صادف فيه حج رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع حجّ أهل الملل» ، (21). و يرى كثير من المحدّثين والمفسرين بالاعتماد على روايات مختلفة أنّ الحجّ الأكبر يوم الأضحى. فبالاضافة إلى أنّ رأي هذه الفئة أصح وأقوى. فإنّه يتّفق أيضاً مع الآية(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ومع ما ورد في الروايات التاريخية أَن «عليَّ بن أبي طالب(عليه السلام) قرأ آيات البراءة بعد ظهر عيد النحر».

يقول ابن أبي أوفي : «يوم العيد الأضحى يوم الحج الأكبر، ففي ذلك اليوم تسكب الدماء، وتحلق الرؤوس، وتزال الأوساخ والأقذار، ويحلّ الحرام » ، (22).  و هذا ما يعتقد به مالك فيقول : لا نشك في أنَّ الحج الأكبر يوم عيد الأضحى ، وذلك لأنّ أكثر أعمال الحج تقام فيه، وفي ليلة العيد يقف الحجّاج في منى، وفي الغد يقام الرمي والتضحية والحلق والطواف » ،(23).و يقول أبو بكر محمد بن عبدالله المعروف بابن عربي مؤيداً قول مالك : «وغاص مالك على الحقيقة » ،(24). و يقول معاوية بن عمّار : سألت الإمام الصادق(عليه السلام) عن يوم الحج الأكبر فقال : «هو يوم النحر، والأصغر هو العمرة » ،(25).و يروي صفوان بن يحيى في موضع آخر عن ذريح المحاربي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال : «الحج الأكبر يوم النحر »، (26) .و يقول فضيل بن عباس :« سألت الامام الصادق(عليه السلام) عن الحج الأكبر وقلت : يرى ابن عباس أنه يوم عرفة، فقال : يقول علي(عليه السلام) الحج الأكبر يوم عيد الأضحى، ثم يستدلّ بقول الله عزّوجلّ : ( فسيحوا في الأرض أربعةَ أشهر ) ، (27) .  

و يقول : الأشهر الأربعة عبارة عن عشرين يوماً من شهر ذي الحجة، ومحرم وصفر وربيع الأول، وعشرة أيام من ربيع الآخر. وإذا كان الحج الأكبر يوم عرفة سيكون أربعة أشهر ويوماً » ،(28) . و لا بدّ من القول هنا : أن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، قرأ آيات البراءة على الناس بمنى كما أمره رسول الله(صلى الله عليه وآله) في اليوم العاشر من ذي الحجة (يوم عيد الأضحى)، وقد أمهل المشركين كما أمر الله أربعة أشهر ليُسلِموا أويبقوا على الكفر والشرك فيقتلوا. وكانت الأشهر الأربعة عبارة عن عشرين يوماً من شهر ذي الحجة، ومحرم وصفر وربيع الأول، وعشرة أيام من ربيع الثاني، حيث تنتهي مهلة الأشهر الأربعة في اليوم الحادي عشر من ربيع الآخر. وبناءاً على هذا فإنّ الذين يعتبرون يوم الحج الأكبر يوم عرفة يضيفون يوماً إلى الأشهر الأربعة، وهذا لا يتفق مع الآية. و يقول صاحب المنار أيضاً، تبدأ الأشهر الأربعة هذه من اليوم العاشر (عيد الأضحى) من ذي الحجة في السنة التاسعة (حيث قرئت آيات البراءة) وتنتهي في العاشر من ربيع الآخر من السنة العاشرة، (29) ، و ورد في رواية أخرى : بينما كان علي بن أبي طالب(عليه السلام) على فرس أبيض في يوم عيد الأضحى، وكان يسير نحو الجبانة، جاء رجل وأمسك بلجام فرسه وسأله : أيّ يوم يوم الحج الأكبر؟ فأجاب : آ«هذا اليومآ» ثم قال : «أترك اللجام» ، (30) .

و تروي مصادر أهل السنة، عن عدد من الأفراد، كابن عباس وسعيد بن جبير وابن زيد، والنخعي والشعبي والسّدي وابن أبي أوفى وابن مردويه، أنّ «المراد من يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحى » ،(31) . و ذكرت رواية عن مجاهد أيضاً أنّ الحج الأكبر يوم النحر ، (32) . و ذكر الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال : سُئل الرسول(صلى الله عليه وآله) «أيّ يوم يوم الحج الأكبر؟ قال : يوم عيد الأضحى »،(33).

و روى أبو الشيخ عن علي أيضاً قوله :«يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحى »، (34). و روى ابن مردويه عن ابن أبي أوفى، وهذا عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قوله : «يوم الأضحى هذا يوم الحج الأكبر »، (35).

و روى ابن داود وابن ماجة... وأبو نعيم في حليته عن ابن عمر أنّه قال : وقف رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم عيد الأضحى في حجة الوداع بين الجمار وسأل الناس : ما هذا اليوم؟ قالوا : يوم عيد الأضحى، فقال الرسول(صلى الله عليه وآله) : «هذا يوم الحج الأكبر »، (36). و روى البخاري وغيره، هذا عن الرسول(صلى الله عليه وآله) أيضا ، (37).  و يقول أبو هريرة : بعثني أبو بكر في هذه السنة مع الموءَذنين الذين أرسلهم يوم عيد الأضحى. ثمّ بعث الرسول(صلى الله عليه وآله) علياً لقراءة آيات البراءة ، (38).

و تبيّن هذه الرواية أيضاً أنّ اليوم الذي قرأ فيه علي(عليه السلام) آيات البراءة على الناس هو يوم عيد الأضحى، ولذلك فإنّ يوم الحج الأكبر هو ذلك اليوم. و يقول ابن أبي شيبة : يرى أبو جحيفة أيضاً أنّ الحج الأكبر يوم عيد الأضحى، و روى عطا وابن جرير هذا عن ابن عباس أيضاً ، (39). و يروي ابن جرير عن المغيرة بن شعبة : أنه خطب في يوم عيد الأضحى وقال : هذا يوم الحج الأكبر، (40). و يروي ابن أبي شيبة عن أبي إسحق أنه قال : سألت عبدالله بن شداد عن الحج الأكبر فأجاب : يوم عيد الأضحى، والحج الأصغر العمرة ، (41) . و يقول سيّد قطب في تفسيره، في ظلال القرآن : «... ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده : أ هو يوم عرفة أم يوم النحر؟ والأصح أنه يوم النحر » ،(42).

و يقول ابن كثير في تفسيره : آ«يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحى وهو أفضل أيام إقامة مناسك الحج وأكبرها آ»43. وهذه عقيدة صاحب تفسير المراغي أيضاً حيث يقول : «يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنهى فرائض الحج، ويجتمع الحجاج لاتمام مناسكهم وسنتهم في منى »، (44) . و يقول محمد رشيد رضا في المنار ضمن تفضيله : إنّ الحج الأكبر يوم عيد الأضحى ] اليوم الذي [ تنهى فيه مناسك الحج ، (45). و بعد أن يورد الطبري أقوالاً مختلفة عن الحج الأكبر يقول : أفضلها وأصحّها عندنا قول من يقول : يوم الحج الأكبر يوم النحر، وذلك لوجود أخبار كثيرة عن جماعة من صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله) تقول : إنّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) قرأ آيات البراءة في يوم عيد الأضحى، وبالاضافة إليها، ذكرنا روايات عديدة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) تقول : «يوم عيد الأضحى يوم الحج الأكبر».

ثمّ يقول تأييداً لهذا الحديث : تكتسب آ«يومآ» معناها في مثل هذه العبارات مما تضاف إليه، فحينما يقول الناس «يوم عرفة » فالمراد هو اليوم الذي يقفون في عرفات . وآ«يوم الأضحىآ» اليوم الذي يضحون فيه، و«يوم الفطر» اليوم الذي يفطر الناس فيه، وكذلك «يوم الحج» اليوم الذي يوءَدون فيه الحج، فالناس ينهون مناسكهم في يوم عيد الأضحى وينتهي حجهم، وأخيراً فإنّ انتهاء الحجّ يوم عيد الأضحى ، (46).

و ورد في رواية أخرى : أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كان على ناقة حمراء فقال : « أتدرون أيّ يوم يومكم؟ قالوا : يوم النحر، فقال : صدقتم، يوم الحج الأكبر»، (47) . و يقول أبو بشر : اختصم علي بن عبدالله بن العباس مع رجل من آل شيبة في يوم الحج الأكبر، وكان علي بن عبدالله يقول : إنه يوم عيد الأضحى، والثاني يقول : يوم عرفة، فأَرسل شخصٌ إلى سعيد بن جبير وسئله فقال : يوم عيد الأضحى.. ،(48). و كانت قراءة علي(عليه السلام) لآيات البراءة في منى، وفي يوم عيد الأضحى.

و يروي أبو الصباح الكناني عن الامام الصادق(عليه السلام) أنه قال : «بعد أن رجع الرسول(صلى الله عليه وآله) من غزوة تبوك، عزم على الحج فقال : إنه يحضر البيت مشركون، يطوفون عراة، فلا أُحبّ أن أحجّ حتى لا يكون ذلك، (49) . فنزلت إثر ذلك سورة براءة، وبعث الرسول(صلى الله عليه وآله) عليّاً(عليه السلام) إلى مكة لقراءة الآيات على المشركين، ويشرح الامام الصادق(عليه السلام) هذه المهمة بقوله : لم يمنع الرسول(صلى الله عليه وآله) المشركين من إقامة مناسك الحج بعد فتح مكة، وكان المشركون قد امتهنوا هذه المناسك بأعمالهم السيئة وعقائدهم الخرافية، ولم يكن لهذا أن يدوم ، ومن أعمالهم هذه :

كانت أحدى سنن عرب الجاهلية في الحج، اعتقادهم بأنّ من يدخل مكة ويطوف بثيابه، لا يجوز له أن يحتفظ بثوبه هذا بعد الطواف، ويستفيد منه; ولذلك كان يتصدّق به بعد طوافه، أوأنه كان يكتري ثوباً يطوف به ثم يعيده إلى صاحبه، والذين كانوا لا يملكون القدرة على الاكتراء ولا يملكون سوى ثوب واحد، كانوا يخلعونه ويطوفون عراة، وقد حدث يوماً أن جاءت امرأة جميلة للطواف في المسجد الحرام وكانت لا تملك غير ثوب ولم يُكرها أحد ثوباً، فطافت عارية والناس يتفرجون عليها، وبعد انتهاء الطواف، طلب بعضهم الزواج منها، فردّتهم المرأة وقالت : إنّ لي زوجاً، ولم يكن لهذا العمل السيء والمهين أن يدوم ويسيء إلى حرمة بيت الله.

و حينما نزلت الآيات الأوَل من سورة براءة على رسول الله، أعطاها إلى أبي بكر، وأمره أن يذهب إلى مكة، وأن يقرأها على الناس بمنى يوم عيد الأضحى، وما إن ذهب أبوبكر حتى نزل جبرائيل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال : « لا يؤدي عنك إلاّ رجل منك ». و قد أورد ابن عربي هذه الجملة ضمن رواية بقوله : «إنه لا يؤدي عني إلاّ رجل من أهل بيتي...»، (50).

ثمّ إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) اختار علي بن أبي طالب(عليه السلام) لهذه المهمة وبعث به خلف أبي بكر، فلحقه علي(عليه السلام) في منطقة الروحاء51، (أوكما ورد في بعض الروايات، في ذي الحليفة)52، وأخذ منه الآيات، فعاد أبوبكر إلى الرسول خائفاً وجلاً وقال : هل نزل فيّ شيء؟ فقال الرسول(صلى الله عليه وآله) : لا إنّ الله أمرني أنه « لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أورجل منك آ.

و قال علي(عليه السلام) : «لقد أمرني الرسول(صلى الله عليه وآله) أن أبلغ الناس أمرالله بأن لايطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك »، (53) . و يتبين من هذه الرواية : أنّ إبلاغ أميرالمؤمنين(عليه السلام) آيات البراءة كان في يوم عيد الأضحى وفي منى، وعلى هذا فإنّ يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحى أيضاً. و يروي حريز عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله : قرأ علي بن أبي طالب(عليه السلام) آيات البراءة بعد ظهر يوم عيد الأضحى، (54).

و يروي الترمذي عن زيد بن يُثَيْع أنه سئل : ما كانت مهمتك في الحج؟ فقال : أربعة أمور :

1ـ لا يطوف بالبيت عريان.

2ـ من كان بينه وبين النبيِّ(صلى الله عليه وآله) عهد فعهده إلى مدته.

3ـ من لا عهد له يمهل أربعة أشهر.

4ـ لا يدخل الجنة إلاّ نفس مؤمنة ، (55).

و يروي ابن عربي نقلاً عن أبي سعيد محمد بن طاهر، وهذا عن الاستاذ أبي مظفر طاهر بن محمود شاهبور، أنه قال : إنّ أحد الأدلة على إرسال علي(عليه السلام) في هذه المهمة، أنّ العرب في الماضي كانوا لا ينقضون عهداً إلاّ بحضور صاحب العهد أورجل من أهل بيته، وأراد الرسول(صلى الله عليه وآله) أن لايدع للمشركين حجة، وأن يسكت ألسنتهم في المستقبل، فأرسل ابن عمه الذي كان من بني هاشم، ومن بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى مكة لنقض هذا العهد،(56). و يؤيد محمد رشيد رضا في تفسير المنار وجود مثل هذه العادة، دون أن يشير إلى مصدره، ويبدوأنه نقل عن هذه الرواية أيضاً، (57). و يظهر أن مثل هذا الموضوع ليس صحيحاً لأن :

أولاّ : كان الرسول(صلى الله عليه وآله) مطّلعاً على عادات عرب الجاهلية، ولو وجدت هذه العادة لما كان من الواجب أن يختار أبابكر أولاً ثم يعهد بالمهمة إلى علي(عليه السلام) بعد نزول الآيات.

ثانياً : يعتقد المفسرون أنّ اختيار علي(عليه السلام) لهذه المهمة كان من قبل الله، أبلغها جبرئيل الأمين; رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنّ هذا الاختيار الإلهي أهم من العمل بعادة جاهلية.

ثالثاً : تمّ إبلاغ آيات البراءة والرسول(صلى الله عليه وآله) في أوج قدرته، وبعد فتح مكة، وفي الوقت الذي كان المشركون فيه أذلاء، ولم تكن لديهم القدرة على الاعتراض في المستقبل على الرسول لنقضه العهد.

و على كل حال لا شك في أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) أمر أبابكر في البدء بابلاغ الآيات، ثم ألغى هذه المهمة وعهد بها لعلي بن أبي طالب(عليه السلام). و قد سعى بعضهم ومنه محمد رشيد رضا إلى إثبات أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) أرسل أبابكر إلى مكّة أميراً للحج، وأمر عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بابلاغ الحجاج سورة براءة، (58). ولكن لا يمكن لهذا الكلام أن يكون صحيحاً لأنّ إبلاغ : « لا يحجّ بعد العام مشرك » يتعلق بأمير الحاج مباشرة، كما ورد في الروايات، ثانياً أنه « لا يبلّغها إلاّ أنا أورجل من أهل بيتي »، (59). و الأعجب من هذا أنّ السادة حينما يواجهون هذه المشكلة، ولا يجدون جواباً لها يلجأون إلى القول بأنّ ابابكر أمر علياً(عليه السلام) بقراءة آيات سورة البراءة ، (60).

بينما كان إبلاغ هذه الرسالة بأمر من الرسول(صلى الله عليه وآله) ولم تكن هناك حاجة لأمر جديد من أبي بكر. ويسعى أبو هريرة لأثبات إبلاغ آيات البراءة في يوم عيد الأضحى لنفسه، ويذكر أنّ علياً(عليه السلام) كان أحد الذين عُهد اليهم بهذه المهمة أيضاً ! ، (61).

وقد طغى التعصب على عيني وأذني السيد محمد رشيد رضا بشكل جعله يهاجم الشيعة بعد روايته لهذه المسائل بشدة متسائلاً لماذا يستفيدون من هذه القضية لاثبات فضيلة لعلي بن أبي طالب(عليه السلام)؟! ، فكيف لانسان يعتبر نفسه مفسراً للقرآن، يمنح نفسه مثل هذه الجرأة فيعمل على تحريف الحقائق، ويتمادى ليطلب الموت والقتل للشيعة أوكما يقول الروافض62 ؟، (62) .

ومما يؤسف له أنهم تمادوا لإِنكار هذه الفضيلة، إلى حدّ دعا محمد رشيد رضا بعد أن تبين كون أبي بكر أميراً للحاج لنقل رواية عن أهل السنة هي : إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) اختار أبابكر أميراً للحاج، وعلياً(عليه السلام) مبلّغاً آيات البراءة، لأنّ أبابكر مظهر الرحمة والجمال الإِلهي، وعلياً(عليه السلام) أسدالله ومظهر الجلال الإِلهي (فصفة القهر من صفات الجلال)، ولمّا كان الأمر هنا نقض عهد المشركين] أي أنّ الشدة ضرورية [، فقد عهد بهذه المسؤولية لعلي بن أبي طالب(عليه السلام)! ، (63) . و يسعى ابن كثير بتعصّبه للغضّ من فضيلة علي بن أبي طالب الكبيرة هذه، باضعاف حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي قال فيه :« لا يبلغها إلاّ أنا أورجل من أهل بيتي آ» فيصفه بالضعف وأنه غير صحيح ! (64) .و يقول فضلاً عن ذلك : وما جاء في الرواية، أنّ أبابكر عاد إلى المدينة، بعد أن أبلغ رسالة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فليس معناه أن أبابكر رجع من فوره، بل بعد قضائه للمناسك التي أمره بها رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، (65).

و الأسوأ من هذا، أنّ ابن كثير يذكر نقلاً عن مسند أحمد بن حنبل : أنه حين أمر الرسول(صلى الله عليه وآله) عليّاً(عليه السلام) بابلاغ آيات البراءة، أجاب علي(عليه السلام) : يا رسول الله لست باللسن ولا بالخطيب!! فقال له الرسول(صلى الله عليه وآله) : لا بدّ لي أن أذهب بها أنا أوتذهب بها أنت، فقال علي(عليه السلام) : فإن كان ولا بدّ فسأذهب أنا! ودعا الرسول(صلى الله عليه وآله)لعلي، ووضع يده على فيه ، (66).

فواعجبا! مايفعل التعصب وكيف ينحرف بالانسان ويضلّه! فعلي(عليه السلام) ذلك الخطيب المصقف والمحدّث المبدف الذي تنحـبس الأنفاس في الصدور ببدء كلامه، ويكلّ لسان العاشقين أمثال ( همّام ) بسماع بيانه، يوصف بضعف اللسان، وعدم القدرة على الكلام. و بديهي أنّ مثل هذه التعصبات لا يمكن أن تلقي ستاراً على الحقائق وأن تخفي الوقائف فالحق ماقيل : من أنّ اختيار علي(عليه السلام) لهذا الأمر المهم، ينمّ عن فضيلة كبرى، لا يقدر على القيام بها سوى من كان من أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)ونفسه وروحه. يقول المرحوم العلاّمة الطباطبائي(قدس سره) في ذيل الآية الشريفة : ( وأذان من الله ورسوله... ) :

«المراد بيوم الحج الأكبر منها أنه يوم النحر من السنة التاسعة للهجرة لأنه كان يوماً إجتمع فيه المسلمون والمشركون، ولم يحج بعد ذلك العام مشرك، ثم يضيف : وهو المؤيد بالأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، والأنسب بأذان البراءة، والاعتبار يساعد عليه ; لأنه أكبر يوم اِجتمع فيه المسلمون والمشركون من أهل الحج عامة بمنى، وقد ورد من طرق أهل السنة روايات في هذا المعنى، غير أنّ مدلول جلّها أنّ الحج الأكبر اسم يوم النحر، اليوم العاشر من كل سنة وليس العام التاسع للهجرة فقء ويتكرر على هذا كل سنة، ولم يثبت عن طريق النقل أنّ اسم اليوم العاشر هو يوم الحج الأكبر »، (67) .

و يتابع كلامه في ذيل تلك الآية الكريمة فيقول : « وكيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول ; لأنّ وجود يوم بين أيام الحج يجتمع فيه عامة أهل الحج، يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف قوله :(يوم الحج الأكبر) إلى نفسه، ويمنع شموله لسائر أيام الحج التي لا يجتمع فيها الناس ذلك الاجتماع » ، (68). و ورد في « معجم دهخدا » نقلاً عن مهذب الأسماء أنّ الحجَّ الأكبر هو عيد الأضحى وعيد النحر ، (69). و يستنتج مما مرّ أنّ  :

1ـ المراد من يوم الحج الأكبر : يوم عيد الأضحى.

2ـ استعملت عبارة آ«يوم الحج الأكبرآ» لأول مرة ليوم عيد الأضحي في السنة التاسعة للهجرة، وكررت هذه العبارة بعد سنة في حجة الوداع ; لذلك يمكن القول : يوم الأضحى من كل سنة هو يوم الحج الأكبر.

3ـ حينما يرد آ«الحج الأكبرآ» بدون كلمة آ«يومآ» فالمراد الحج مقابل العمرة.

و يقول الطبري، بعد نقله للآراء المختلفة عن سبب تسمية هذا اليوم بالحج الأكبر : إنّ أصح هذه الأقوال عندي قول من يقول : الحج الأكبر بمعنى الحج، والحج الأصغر بمعنى العمرة، لأنّ أعمال الحج أكثر من أعمال العمرة ، (70).

4ـ وكما ورد في بعض المصادر، فإنّ يوم عرفة صادف في السنة التي حج فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم الجُمعة، وكذلك قول صاحب كتاب الفقه الإسلامي وأدلته : «قد ثبت في الصحيحين أنّ يوم عرفة الذي وقف فيه النبي(صلى الله عليه وآله) كان يوم الجمعة » ،(71). ولكن ليس من دليل في الروايات والمصادر التاريخية يثبت أن مصادفة عرفة في ذلك الزمن ليوم الجمعة، ما يدل على أنّ حج تلك السنة هو الحج الأكبر، ويبدوأنّ اعتقاد العوام بذلك أصبح مع مرور الزمن حقيقة ثابتة. و يقول صاحب تفسير المنار : كان يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، وكلما صادف الوقوف في عرفات يوم الجمعة سمى العوام تلك السنة الحج الأكبر، (72). و ورد في «معجم دهخدا » أيضاً : يبدوأنّ العوام يقولون للعام الذي يصادف فيه عيد الأضحى يوم الجمعة ، الحج الأكبر، ويظنون أنّ ثواب هذا الحج أكثر ، (73).

---------------------------------------------------

الهوامش  :

1 ـ التوبة : 3.

2 ـ القرطبي 8 : 69.

3 ـ نفس المصدر 8 : 70.

4 ـ نفس المصدر.

5 ـ تفسير الفخر الرازي 15 : 221.

6 ـ الدرّ المنثور 3 : 213.

7 ـ نفس المصدر.

8 ـ نفس المصدر.

9 ـ تفسير الفخر الرازي 15 : 221.

10 ـ مجمع البيان 5 : 5.

11 ـ كشّاف اصطلاحات الفنون 1 : 283، وكذا في جامع الرموز.

12 ـ الوسائل 11، الحديث 14108، ط : آل البيت.

13 ـ نفس المصدر 14، الحديث 19238.

14 ـ مجمع البيان 5 : 5; تفسير القرطبي، ص70.

15 ـ تفسير القرطبي 8 : 70.

16 ـ الدر المنثور 3 : 212.

17 ـ القرطبي 8 : 70.

18 ـ أحكام القرآن، ابن عربي 2 : 453.

19 ـ الدر المنثور 3 : 211.

20 ـ الوافي 14 : 14318.

21 ـ الدرّ المنثور 3 : 211.

22 ـ تفسير القرطبي 8 : 69.

23 ـ نفس المصدر : 80; أحكام القرآن، ابن عربي 2 : 452; نور الثقلين 2 : 185.

24 ـ أحكام القرآن 2 : 453.

25 ـ الوسائل 14 : 19231/269; الوافي 14 : الحديث 14315.

26 ـ الوافي 14 : الحديث 14316.

27 ـ التوبة : 2.

28 ـ الوافي 14 : الحديث 14317; نور الثقلين 2 : 185.

29 ـ تفسير المنار 10 : 152.

30 ـ تفسير روح البيان 3 : 385.

31 ـ تفسير الفخر الرازي 15 : 221.

32 ـ مجمع البيان 5 : 5.

33 ـ الدرّ المنثور 3 : 211.

34 ـ نفس المصدر.

35 ـ نفس المصدر.

36 ـ نفس المصدر.

37 ـ أحكام القرآن، ابن عربي 2 : 449.

38 ـ نفس المصدر : 450.

39 ـ تفسير الفخر الرازي 15 : 221.

40 ـ الدر المنثور 3 : 211.

41 ـ نفس المصدر : 212.

42 ـ في ظلال القرآن 4 : 136.

43 ـ تفسير ابن كثير 2 : 521.

44 ـ تفسير المراغي 10 : 55.

45 ـ تفسير المنار 10 : 153.

46 ـ تفسير الطبري 6 : 75.

47 ـ نفس المصدر : 53.

48 ـ نفس المصدر : 71.

49 ـ تفسير القمي 1 : 281.

50 ـ أحكام القرآن 2 : 453.

51 ـ الروحاء : موضع بين مكة ومدينة، يبعد عن المدينة حوالي 30ميلاً.

52 ـ نور الثقلين 2 : 178.

53 ـ نفس المصدر : 181; تفسير الصافي 2 : 319.

54 ـ نور الثقلين 2 : 179.

55 ـ تفسير القرطبي 8 : 68; أحكام القرآن، ابن عربي 2 : 454.

56 ـ القرطبي 8 : 68.

57 ـ تفسير المنار 10 : 158.

58 ـ نفس المصدر : 155.

59 ـ نفس المصدر : 157.

60 ـ نفس المصدر : 156.

61 ـ تفسير ابن كثير 2 : 521.

62 ـ نفس المصدر : 164.

63 ـ تفسير المنار 10 : 162.

64 ـ تفسير ابن كثير 2 : 522.

65 ـ نفس المصدر.

66 ـ نفس المصدر، مسند أحمد 1 : 150.

67 ـ تفسير الميزان 9 : 149.

68 ـ نفس المصدر.

69 ـ معجم دهخدا.الحج الأكبر : 315.

70 ـ تفسير الطبري 10 : 160.

71 ـ الفقه الاسلامي 3 : 212.

72 ـ تفسير المنار 9 : 229.

73 ـ معجم دهخدا الحج الأكبر : 315.


الحجّ في الأدب العربي1

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)