الأطفال ودائع الله هدايةً ورعاية
الطفل هو اللبنة الأولى في المجتمع ... إن أحسن وضعها بشكل سليم ، كان البناء العام مستقيماً مهما ارتفع وتعاظم ..
والطفل هو نواة الجيل الصاعد التي تتفرع منها أعضائه وفروعه ..
وكما أن البناء يحتاج إلى هندسة وموازنة ، وكما أن النواة تفتقر إلى التربة أو الظروف المناسبة.. كذلك الطفل فإنه يحتاج إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته ، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه ، ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلقاها والحضارة التي يتطبع بها والتربية التي ينشأ عليها !!
إنه عالم قائم بذاته ، يحمل كل سمات الحياة بصورة مصغرة ، في صخبها وأمنها، في سعادتها وشقائها ، في ذكائها و بلادتها ، في صفائها و حقدها ، في تفوقها و تأخرها ، في إيمانها وجحودها ، في حربها وسلمها ...
إن تعهد العقل والعاطفة بالتربية والتنمية ـ والذي هو أساس سعادة الإنسان يجب أن يبدأ من مرحلة الطفولة ، فمرحلة الطفولة هي أحسن مراحل تعلم الأسلوب الصحيح في الحياة ، فقدرة الإقتباس و التقليد ، وحاسة التقبل عند الطفل شديدة ، فباستطاعته أن يتلقى جميع حركاته و سكناته ، وأقواله وأفعاله ، بدقة عجيبة أشبه بعدسة تصوير .
وفي الوقت الذي يتكامل جسد الطفل وينمو ، يجب أن تسلك روحه في طريق التعالي والتكامل أيضاً ، وكما يعتنى بسلامة جسد الطفل ، يجب أن يعتنى بسلامة مشاعره ومعنوياته ، حيث يجب تعويد الطفل على النظافة والأدب والصدق والعطف والمسؤولية وحب الخير ..وعشرات الصفات الفاضلة الأخرى ، فمن الصعوبة بمكان تغيير سلوك الأشخاص الذين لم يتعودوا في أيام طفولتهم على السلوك التربوي الصحيح .
إن أسعد الناس هم أولئك الذين نشأوا على التربية السليمة والصفات العالية منذ حداثة السن حتى أصبحت جزءاً من كيانهم .
لذلك إن للآباء والأمهات دوراً مهماً في بناء سعادة الأطفال وحمل مسؤولية كبيرة على عواتقهم .
يقول الإمام علي (ع) لولده الحسن (ع) : "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته ، فبادرْ إبنكَ بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك " .
إن قلب الطفل صفحة بيضاء لا يوجد فيها فكرة صحيحة أو خاطئة ، والآباء والأمهات الشاعرون بالمسؤولية هم الذين يستغلون ذلك أقصى الإستغلال ويجعلون قلوب أطفالهم تتزين بالملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة .
إن عواطف الطفل ومشاعره تظهر قبل عقله ، ويمكن الإستفادة من أحاسيسه قبل ذخائره العقلية بكثير .
إن الأطفال في جميع أنحاء العالم يرسلون إلى المدارس بعد السنة الرابعة أو الخامسة من عمرهم ومن ذلك الحين تتفتح المواهب الفكرية للطفل ، في حين أن أحاسيسه ومشاعره تبدأ بالنشاط قبل ذلك بزمن طويل .
ففي الوقت الذي لايفهم الطفل المسائل العلمية ولا يدركها نجده يدرك القضايا العاطفية وهي بدورها تؤثر فيه كالحدة واللين والرفق والعطف والحنان والإحترام والإهمال وغير ذلك ..
إن موضوع تنمية المشاعر والأحاسيس يشغل قسطاً مهماً من المسائل التربوية ، ويقع عبء المسؤولية في أداء هذا الواجب على الأبوين بالدرجة الأولى ، فرياض الأطفال عاجزة عن أن تحل محل العائلة والأم في إحياء جميع مشاعر الطفل الخفية بصورة لائقة وهداية الطفل إلى السير الطبيعي الذي فطر عليه .
وهنا يجدر القول إن على الأهل أن يهتموا بأطفالهم وبسلامة تغذية الجسد والروح ، وهذا ما يجعل عبء مسؤولية الوالدين في المراحل الأولى للطفل ثقيل جداً ، لأن الغفلة عن صحة وسلامة الغذاء المادي والروحي تؤدي إلى عوارض غير قابلة للتدارك ، فالطفل يكتمل بناؤه في الأعوام الأولى من حياته ، ولا بد من الإعتناء بجميع جوانبه المادية والمعنوية ..
إن نقص التغذية الروحية أو الجسدية من حياة الطفل يتضمن نتائج وخيمة ، كما أن خطأ صغيراً يمكن أن يؤدي إلى مشكلة عظيمة ، يستمر الطفل يئن منها إلى نهاية عمره .
لذا إن على الوالدين المسلمين أن يتنبها إلى المسؤولية الدينية العظيمة عليهما في تربية أطفالهما ، ويعلما أن الأطفال ودائع الله في أيديهما ، فالوالدان اللذان يؤديان واجبهما الديني في تربية الأولاد بصورة صحيحة يكونان قد أديا الأمانة أداءً كاملاً ، ويستحقان الأجر والثواب عند الله على ذلك .
أما الوالدان اللذان يتخلفان عن ذلك فهما خائنان لأنفسهما ولأطفالهما وللمجتمع الذي يعيشان فيه ، وهما يستحقان العقاب والحساب العسير أمام الله تعالى .
لذا ليست المسؤولية العظمى للآباء في أن يجمعوا في حياتهم ثروة ضخمة و يورثوها إلى أولادهم، ذلك أن الولد إذا لم يحصل على تربية صحيحة فإن الثروة قد تجره إلى الفساد والشقاء .
إن مسؤولية الوالد تعني أن يربي ابنه على الملكات الفاضلة والقيم العليا والإيمان الصحيح و إعداده لخوض معركة الحياة بنبل وطهارة لأن طفل كهذا يستطيع أن يحيا حياة سعيدة وعزيزة ، وفي نفس الوقت يستطيع أن يكتسب ثروة كبيرة عن طريق مشروع .
يقول أمير المؤمنين علي (ع) : " خير ما ورث الآباء الأبناء الأدب " .
ونعمة كبيرة يمتاز بها الأولاد الذين تحدَّروا عن آباء مؤمنين قاموا بتربيتهم تربية صحيحة ، ومن نتائج تلك التربية أنهم يعيشون حياة مطمئنة محبوبون لدى الجميع ، فيجب أن يشكروا الله تعالى على تلك النعمة ، ويترحموا على والديهم ويحافظوا على الملكات الفاضلة التي تربوا عليها ـ فلا يفقدوها بمعاشرة الفساد ومجالسة الأشرار .
أما الأولاد الذين لم يتلقوا تربية صحيحة من آبائهم فإن عليهم أن يبادروا إلى اصلاح أنفسهم ليكونوا واثقين من أنهم قادرون على تدارك تقصير والديهم بحقهم ، وذلك بأن يتمسك هؤلاء الأفراد بالأساليب العلمية والدينية الصحيحة ، وبذلك يستطيعون أن يسلكوا الطريق إلى السعادة والطهارة والعفة ...
من الأمور الفطرية عند الإنسان ، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل ، غريزة التفوق وحب الكمال .. إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل إنسان ، وعلى المربي الواعي أن يستغل هذه الثروة النفسية ، ويقيم شطراً من الأساليب التربوية الصحيحة على هذا الأساس ، فيسوق الطفل إلى طريق الترقي والتعالي .
ولقد ورد بهذا الصدد حديث عن الإمام الحسن (ع) : " أنه دعا بنيه وبني أخيه ، فقال : إنكم صغار قوم ، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين ، فتعلموا العلم اليوم فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته ". وفي هذا الحديث نجد أن الإمام الحسن (ع) ، لأجل أن يحث أبناءه وأبناء أخيه على اكتساب العلوم ويشجعهم على ذلك ، يستفيد من حب الذات والترقي عندهم .. وهو أمر فطري ، من دون أن يتوسل إلى الزجر والأساليب المخيفة ، ويفهمهم أن تحصيل العلم اليوم هو سبيل الوصول إلى العزة والعظمة في الغد .
إن الأسلوب المستعمل في هذا الحديث يعد من أعظم الأساليب في مجال التربية والتعليم في العصر الحديث ، فكل أسرة تستطيع أن تشجع أبناءها على تحصيل العلوم بهذا الأسلوب ، وتدفعهم منذ البداية إلى التعالي والترقي فإن الأطفال يسعون وراء العلم بدافع ذاتي فيما بعد ، ولا يحتاجون إلى التهديد والتعقيب .
وهنا توجد نقطة تشابه بين جو الأسرة العائلية ومحيط الدولة والحكومة الإسلامية حيث يقوم النظام الإجتماعي فيها على مبدأي الحرية والعدالة .. لذلك فإن التربية في ظل النظام الإسلامي تقوم بدورها على العدل والحرية ، وتنمية حب التعالي والتكامل في نفوس الأطفال ..
يقول الإمام علي (ع) لولده الحسن (ع) : " ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً " بهذه الجملة القصيرة يزرع الأب العظيم أعظم ثروة للشخصية في نفس ولده ، ويعوده على الحرية الفكرية .
وبالنسبة إلى تعلم الأطفال قال (ع) : " من لم يتعلم في الصغر لم يتقدم في الكبر "
إن المربي القدير هو الذي يستفيد من غريزة حب الكمال والتعالي عند الطفل ويقيم قسماً كبيراً من أساليبه التربوية على هذا الأساس .
إن للأسرة التي ينشأ فيها الطفل دوراً هاماً في تربيته ، حيث يعتبر محيط الأسرة مدرسة تستطيع أن تنمي المواهب الكامنة في نفس الطفل وتعلمه دروساً في القيم الإنسانية العليا .
وقد كان الإمام علي (ع) إنساناً كاملاً وشخصية مثالية في العالم كله ، فلقد ظهرت جميع الصفات الإنسانية والأخلاق الفاضلة على أكمل وجه في هذا الرجل الرائع .
وصاحب هذه الشخصية الكبيرة ، نجده يفخر بكل صراحة بالتربية التي تلقاها في أيام طفولته ويتحدث لنا عن الثروة المعنوية الضخمة التي حصل عليها في تلك المرحلة من حياته الشريفة ، ويتباهى بمربيه العظيم نبي الإسلام (ص) فيقول : " وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ، ويمسني جسده ويشمني عرفه .. " .
ويتابع (ع) فيقول : " يرفع لي في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالإقتداء به "
لقد تشبعت جميع الميول العقلية والعاطفية للإمام علي (ع) في فترة الطفولة في حجر النبي الحنون (ص) ، فلقد أروى عواطفه بالمقدار الكافي من ينبوع محبته وعطفه من جهة ، ولقد أعطاه دروساً في الأخلاق وأمره باتباعها من جهة أخرى .
إن الأساليب التربوية العميقة الحكيمة التي اتخذها الرسول الأعظم (ص) مع علي (ع) قد أحيت جميع مواهبه الكامنة وأوصلته في مدة قصيرة إلى أعلى مدارج الكمال ، فلقد تقبل الإسلام في العاشرة من عمره عن وعي وإدراك ، وعمل على نشر تعاليمه متبعاً في ذلك سيرة النبي ، ولم ينحرف عن الصراط المستقيم قدر شعره إلى آخر حياته .
إن الميزة التي تضفي أهمية كبرى على قيمة الأسرة هي إحياء الخصائص الفردية لدى الطفل ، فالأفراد ليسوا متفاوتين فيما بينهم من ناحية المنظر والبناء الخارجي فقط ، بل يختلفون من حيث معنوياتهم ونفسياتهم أيضاً ، وهذا الإختلاف نفسه أحد مظاهر القدرة الإلهية { ما لكم لا ترجون لله وقاراً * وقد خلقكم أطواراً } [ المنافقون /8] .
عن رسول الله (ص) : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " ، لذا نجد أن بعض الأطفال يولدون مع صفات وخصائص معينة لا توجد عند الأطفال الإعتياديين ، فربما يوجد العقل والإدراك والذكاء والفطنة والحافظة وسرعة الإنتقال والشهامة والسيطرة على النفس وغير ذلك في بعض الأفراد بصورة أكثر من المعتاد ..
إن تربية الطفل يجب أن تستند إلى الإدراكات الطبيعية والميول الفطرية للإنسان ، فأساليب التربية التي تبنى على هذا الأساس تكون هي الصحيحة ، و هي الطريق الواقعي لسعادة الإنسان ..
لذا فما هو الأساس الأهم للتربية ؟ ..
إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله ، والإيمان به بلسان بسيط ميسر الفهم ..
فالحاجة للإيمان بالله موجودة في باطن كل إنسان بفطرته الطبيعية ، وعندما يبدأ جهاز الإدراك عند الطفل بالنشاط والعمل ، ويستيقظ حسن التتبع فيه ، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ، فإن نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماماً لتلقي الإيمان بخالق العالم ، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعية في بناء الطفل .
وعلى القائم بالتربية أن يستفيد من هذه الثروة الفطرية ، ويفهمه أن الذي خلقنا والذي يرزقنا والذي خلق جميع النباتات والحيوانات والجمادات والذي خلق العالم ، وأوجد الليل والنهار ، هو الله تعالى إنه يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحسنات ويعاقبنا على السيئات .
إن هذا الحديث سهل جداً ، وقابل للإذعان بالنسبة للطفل ونفسه ، فنراه يؤمن بوجود الله في مدة قصيرة ، ويعتقد به. بهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطفل حب النظام والإلتزام ونحثه على الإستقامة في السلوك وتعلم الأخلاق الحسنة .
ثم إن الإيمان بالله هو أعظم ملجأ للإنسان ، وأكبر عامل للهدوء النفسي واطمئنان الخاطر ، وهو أيضاً أهم أسس السعادة البشرية وأولى المواضيع التي أهتم بها الأنبياء في دعوتهم ..
ويجب أن نعرف أن المربي الكفء والقدير هو الذي يلفت نظر الطفل منذ الصغر نحو الله تعالى ويلقنه درس الإيمان به بلسان واضح بسيط .. إن على المربي القدير أن يتحدث إلى الطفل عن رحمة الله الواسعة أتباعاً لمنهج القرآن الكريم ، ويبذر في نفسه بذور الأمل ، ويفهمه أن اليأس من روح الله ذنب عظيم ..
يجب أن يعرف الطفل منذ الصغر أن لا ييأس أمام حوادث الزمان ، فالله قادر على حل مشاكله ( أي مشاكل الطفل ) وتيسير أموره ، فإن رفعنا يد الحاجة نحوه ساعدنا على مهمتنا ..
إن على المربي أن يفهم الطفل أن أعظم الواجبات الإنسانية هو جلب رضى الله ، وإن رضى الله يكمن في إطاعة أوامره التي بعثها إلينا عن طريق نبيه العظيم .. وإن الصدق والأمانة يسببان رضى الله ، أما الخيانة فتسبب غضبه .
يجب على الأب والأم .. والمربي أن يوقظ الإحساس بالمسؤولية أمام الله في الطفل منذ الطفولة ، ويحثه على الشعور بواجبه ، وإشعاره بأسلوب بسيط : أن الله يراقبك في كل حال ، ويطلع على أفعالك ، الصالحة والسيئة ، ولا يخفى شيء على الله تعالى ..
إنه يجازيك على حسناتك ويعاقبك على سيئاتك " .
إن الآباء والأمهات الذين يحيون الفطرة الإيمانية عند الطفل ويربونه مؤمناً منذ الصغر ، فإنهم بذلك يصبون ركائز سعادته من جهة ، ويكونون قد قاموا بأول واجباتهم في التربية من جهة أخرى ..
www.bayynat.org