• عدد المراجعات :
  • 1800
  • 2/12/2006
  • تاريخ :

مِن بَديع القرآن

من بديع القرآن

أريد بـ «بديع القرآن» ضرباً من الاستعمال يقوم على أن تؤدي الكلمة معناها كما تؤدي ضرباً من الحسن يتأتَّى من بنائها وهيأتها كما يتأتَّى من مجاورتها لغيرها من الكلم. ألا ترى أن نون التنوين تلحق طائفة كبيرة من الأسماء فتكسبها الحسن والجمال والقوة، وقد تعرى من هذه النون طائفة أخرى فتكون الكلمة متصفة بالحسن والطلاوة التي لا نحسها لو لحقت بها هذه النون؟! وقد يكون شيء آخر من أمر النون، فقد تلحق الكلمَ الذي يخلو منها وهو مفرد، ولكنه يجمل بها وهو يجاور كلماً آخر حُلِّيَ بهذه النون. ألا ترى أن من بديع كمال هذه اللغة القرآنية أن جمهرة من القراء قرأوا: «سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً» ؟ !

كان حق «سلاسل» ألاّ تنوّن، وعدم تنوينها يوفر لها الحسن والجمال. ولم يشأ أهل العربية من النحاة واللغويين أن يبحثوا في علة عدم تنوين هذه الجموع التي أسموها بـ «منتهى الجموع» واكتفوا بقولهم : إن بناء منتهى الجموع علة بمنزلة علتين، والعلتان سبب يجب أن يتوفر في خلوِّ الاسم من التنوين .

أقول: من الخير أن نفارق هذا العلم النحوي لننظر في هذه المباني التي أسموها «منتهى الجموع» لنجد أنها مبانٍ اتصفت بالطول، وبكثرة الأصوات، فقد تكون خمسة أصوات أو ستة، وكثرة الأصوات مُؤذِنة بالكفاية، فليس من الحسن أن يزاد فيها نون أخرى. غير أن هذه الزيادة وجبت من أجل أن يتم الانسجام والتشابه الذي عُبِّر عنه بالتناسب أو المشاكلة .

وستأتي نماذج من هذه المواد التي قُصد فيها هذا الضرب من التناسب الذي استُحسن ولو تجاوز الحدود فخالف بناءً، أو جار على قاعدة نحوية، أو ابتعد عما ألف المعربون في نظام الجملة العربية .

ألا ترى أنك تقرأ سورة الفاتحة فتجد فيها من حسن النظام وبديع التناسب ما لا تحصل عليه في كثير من النصوص ؟ !

بسم الله الرحمن الرحيم

«الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ».

ولعل العربية فريدة بين اللغات القديمة والحديثة التي أَحَسَّ بحسن أصواتها المعربون، فدَرَجوا على نمط من المشاكلة يوفّر الحسن والجمال. قد تدرك أن الميم والنون قد تَوَزَّعا هذه الآيات البيِّنات، فجعلا منها قطعة بالغة في الحسن، مستوفية في نظمها وبنائها ما لا يمكن أن تجده في المأنوس من فرائد الشعر .

قال جلَّ وعلا: «الحمدُ للهِ ربِّ العالمين* الرحمنِ الرحيم ...»

نلاحظ أنّ أسلوب هذه السورة يؤدي مادة الدعاء والتقرب إلى العليّ العظيم وإن جاء أول السورة جملةً خبرية. ومن المعلوم أن لغة الدعاء ينبغي لها أن تُشحَن بمادة عاطفية، فجاء قوله على لسان النبي وجمهرة المسلمين: «الحمد لله رب العالمين»، وانتهت الآية «بربّ العالمين». وكانت النون في هذا الجمع المذكَّر نهايةً جميلة بعد أن وصف هذا الموصوف العلي العظيم بقوله: «الرحمنِ الرحيم». فلو قُدِّرَ لك أن تفارق الحسن والذوق والبلاغة فقلت: «الرحيم الرحمن» ولم تُخِلَّ بالصفتين، ولكنك أخللت بالترتيب، لرأيت أن في قوله «الرحمن الرحيم» فائدة أية فائدة، في توفير التناسب في هذا التقسيم البديع. ثمّ إن هذا الحسن لم يتم بطريقة السجع، ولكنه إخاء بين صوتين التَأَما في العربية التئاماً عجيباً .

لم يفطن اللغويون لمادة الإبدال التي تقع في الميم والنون ويَقِفوا على السر في ذلك. لقد تم هذا التناسب في هاتين الآيتين بعيداً عن السجع، ولله في ذلك حكمة بالغة. ثمّ جاءت الآية الثالثة «مالك يوم الدين » فتم هذا التناسب من النون إلى الميم إلى النون ثانية .

إنا لَنجد في القراءات، ولا سيما غير المشهورة، أن أحداً من القراء قرأ: «مَلِكِ يوم الدين»، وهذه القراءة مخالفة للقراءات الكثيرة التي توفر لها ما يشبه الإجماع .

والتزام القراءات الكثيرة بلفظ «مالك» قد يكون دليلاً على أن الآية ـ وهي مشتملة على اسم الفاعل «مالك» ـ أوفر للحسن وإتمام الوزن منها لو أنها اشتملت على «مَلِك ».

ونأتي إلى الجملتين من الآية الشريفة الخامسة، وهما: «إياك نعبُدُ، وإيّاك نستعين »..

نجد أنهما بَدَأتا بلفظ «إيّاكَ» وهو المقصود بالعبادة والاستعانة، وهو الله جل شأنه . والتقديم يوفّر نظام الفواصل الذي انعقدت عليه السورة. وليس كما ذهب غير واحد من أن التقديم لغرض الحصر. وهذا يعني أن العناية بالشكل في نظام الفواصل هذا هي وحدها استدعت هذا التقديم وليس من أجل غرض آخر .

ثمّ ناتي إلى الآية السادسة فنجد أسلوب الدعاء المتوصَّل إليه بفعل الأمر «إهدِنا الصِراطَ المستقيم». ونعود إلى نظام الفواصل وليس السجع منتقلين من النون إلى الميم .

ثمّ إنك لو نظرت إلى هذه الفِقَرِ ـ أي الآيات ـ وجدتها موجزة مقدَّرة على طول معيّن، تفي عنه ما يخرم هذا القياس الذي يشبه الوزن. ألا ترى أن الفعل «إهدنا» وصل إلى مفعوله بغير «إلى» وقد وجدناه في آيات أخرى يلتزم بهذه الأداة، كما في قوله تعالى : وَاهْدِنَا إلى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (1) ؟ !

إنه من غير شك قد وصل الفعل «إهدِنا» إلى مفعوله «الصراط» ليتم بناء حسن يكاد يكون موزوناً، ولو جيء بالأداة «إلى» فقلنا: «إهدنا إلى الصراط المستقيم» لعَرِيَ التركيب من هذا النظام المقدَّر الذي يُشعرك بالوزن حفاظاً على النمط البديع الذي يقوم على الشكل طولاً وقصراً .

وأنت تحسّ هذه العناية بشكل الآية وطولها في الآية السابعة في قوله تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» وقد وُصفوا أخيراً بقوله: «غير المغضوب عليهم»، ثمّ لم يَقُل وغير الضالين بل تجاوزها إلى أداة النفي فقال: «ولا الضالين ».

إنّ جملة هذه العناية بطول الآية واستبدال بعض الكلم ببعض مقصود لِما يؤدي إليه من نظام حسن، هو أسلوب «بديع القرآن ».

و قد يقال أنّ «السجع» قد يكون ثقيلاً، مُخِلاًّ بالكلام؛ لأنه يجور على المعنى، فقد تُؤثَر السجعة وهي تنال من إصابة الغرض فلا يوصل إلى المراد إلا بعد لأي. غير أن هذا النظام من السجع الذي دُعي بـ «الفواصل»، قد نُفِيَ عنه ما يؤدي إلى شيء من هذا النقص، وتلك حكمة الله في كلامه المقدَّر الموزون على قدر المعاني .

ولْنأخذ سورة الاخلاص وهي كلّها فواصل مسجوعة، هي :

بسم الله الرحمن الرحيم

«قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ»

 

ولْننظُر إلى هذا التقسيم البديع في هذه الآيات المقدَّرة المَقيسة بمقياس دقيق موزونٍ، فنجد هذا البناء المتين والفواصل البديعة التي رُوعيَتْ في الآيات الأربع بحيث قُدِّمَ الخبر في الآية الأخيرة ليسلم البناء على هذا النمط من الحُسن، مع إصابة للمعنى المراد. ولا يذهبنّ بك الظن أن الحسن قد توفر لسجع فيه، ولكنه هو التقسيم في هذه الآيات المقدّرة المَقيسة مع هذه الفواصل المسجوعة قد جاء بهذا الحسن البديع. ألا ترى أن قوله تعالى في سورة النصر :

بسم الله الرحمن الرحيم

«إذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُون فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجَاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَاً»

 

قد خلا من الفواصل المسجوعة، وهو مع هذا مشتمل على الحسن لما وفّر له هذا التقسيم البديع في الآيات من الكمال والجمال ما لا تجده في كثير من فنون الإعراب .

وليست الفواصل ـ أو قُل السجع وحده ـ وفّر الحسن والجمال الفريد في كتاب الله، ذلك أن فيه من فنون العناية ما لا تَقفُ إلاّ على شيء منه في حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .

ما زلت أذكر منذ أيّام الطلب أن ابن الأثير في «المَثَل السائر » (2) أشار إلى شيء من هذا فتكلم على قول النبيّ صلوات الله عليه: «إرجِعْنَ مأزورات، غيرَ مأجورات»، والأصل: مَوزورات مِن الوِزْر وهو الذَّنْب، ولكنّ لغة الحديث الشريف آثرت هذا الضربَ من التناسب ـ أو قُل التشاكل ـ لِتَلْتئم الكلمة مع رَصيفتها «مأجورات». ألا ترى أن مراعاة النظير توخياً للحسن حمل على سلوك هذا السبيل ؟ !

ومن هذا نُوِّنَتْ «قواريراً » الثانية في قوله تعالى : قَوَارِيراً مِنْ فِضَّةٍ (3).

لتناسب «قواريراً» الأولى التي قبلها، كما نوّنوا «يغوثاً ويَعوقاً» في قوله تعالى : وَلاَ

تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (4) لِيُناسِبا «نَسْراً » (5).

ومن هذا ما جاء في سورة الرعد :

اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ومَا تَغيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ، وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ* عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الكبيرُ المُتَعُالِ* سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالِلّيلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (6).

لقد جاء «المُتَعال» في الآية، وهو مَنقوص حُذفت ياؤه، لتُشاكِل سائرَ الفواصل في الآيات .

وقال العُكبري: حُذِفت للتشاكل، ولولا ذلك لكان الجيّد إثباتها (7).

ومثل هذا الضرب من المشاكلة والتناسب ما جاء في قوله تعالى : قَالَ فِرْعَونُ مَا أُرِيكُمْ إلاّ مَا أَرى، وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ* وَقَالَ الّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم، وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ* وَيَا قَوْمِ إِنّي أخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (8).

ألا ترى أنه لم يَجئ في الآية «التنادي»، وهو الصحيح المتطلَّب، وعُدِل عنه إلى «التناد» بحذف الياء؛ توخّياً للمشاكلة بين الفواصل ؟! فهي: الرشاد، والعباد، والتناد، وهاد .

وقد تُلجئ رعايةُ الفاصلة إلى حذف ما لا يُحذف إلاّ لأداء غرض فني، كالذي نلقاه في قوله تعالى : وَإنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (9).

حُذِف معمول «أخفى»، والتقدير ـ والله أعلم بمرادِه ـ : وأخفى السِرَّ عن الخلق، على تقدير: أخفى «فعلاً»، وعلى تقديرهِ اسماً، فالمحذوف الجار والمجرور، أي: وأخفى منه (10).

ومن الحذف ممّا لا يجوز حذفه إلا في مقامٍ كهذا يستدعيه ضرب من المشاكلة أو التناسب.. قوله تعالى : وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (11) ، فقد حذفت ياء الفعل «يسري» ـ وهو غير مجزوم بأداة جزم ـ وهذا يعني أن رعاية الفواصل القائمة على الراء المكسورة بكسرة طبيعية تأبى أن تطول الكسرة بعد الراء في الفعل فيكون منها المد الطويل بالياء. إن في ذلك مراعاةً لطول الفِقَر التي تضمَّنَتها الآيات، وحيث أن الياء تُخِلُّ بهذا الطويل المقدّر المَقيس حُذفت مُشاكلةً وتناسباً .

ومثل هذا الحذف.. حذف ياء الاضافة، في قوله تعالى : فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ؟ ! (12).

ومن الحذف الذي اقتضته مراعاة الفواصل وما تؤدي إليه من الحسن حذف المفعول به، كما في قوله تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم

«وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (13).

والتقدير: وما قَلاكَ، ولكنّ المفعول به قد حُذف ليناسب «سجا». ومن هذا الحذف ما ورد في سورة طه، وهو في قوله تعالى : إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (14).

وإذا كان الحذف يوفّر التناسب أو المشاكلة فإن الزيادة أيضاً ترمي إلى هذا الغرض، ومن ذلك قوله تعالى : وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (15).

ولولا رعاية الفواصل وما ترمي إليه من التناسب تَوَخّياً للحُسن لكان من الصواب والصحة أن تكون الآية : وتظنون بالله الظنون .

ومن هذه الزيادة المقصودة التي تؤدي إلى التناسب وإحسان البناء قوله تعالى :

إِنَّ الله لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ* وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنَاً كَبِيراً (16).

وقد زيدت الألف في «الرسولا» و «السبيلا» لتناسب الفواصل السابقة واللاحقة. وقد أشرنا إلى زيادة هاء السَّكْت في سورة الحاقَّة في قوله تعالى : مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (17) ؛ وفاءً بالتناسب والحسن .

ولعل المشاكلة والتناسب هما السبب في كون «النخل» مرةً مذكّراً وأُخرى مؤنثاً، كما في قوله تعالى : أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (18) ، وقوله : أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (19).

وقد قال أهل العربية إنّ اسم الجنس واسم الجمع يندرجان في حكم التذكير كثيراً، وإن لم يكن هذا مما يؤيده الاستقراء تأييداً تاماً، فقد جاء في قوله تعالى : وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ

(20) ، فقد وصف النخل بـ «باسقات» صفة مؤنثة مجموعة ثمّ عاد الضمير عليها وهو مفرد مؤنث، وهذا شيء من خصائص لغة القرآن وما أفرغه الله فيها من الفوائد التاريخية الحسان .

وقد يكون للكلمة في العربية وجهان من حيث بناؤها، ولكنها تأتي على وجه من هذين الوجهين دون الآخر؛ مراعاة للفواصل، ومن هذا جاءت كلمة «رَشَد» بفتحتين ولم تأت بالوجه الآخر وهو الضم والسكون، وذلك في قوله تعالى :

فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدَاً (21).

وفي قوله تعالى :

وَهيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (22).

وإنما التزم وجه التحريك بفتحتين لما جاء في السورة من الفواصل التي فتح منها الوسط. قرأ بذلك السبعة ولم يقرأ أحد من القراء بالوجه الآخر «رُشْداً» بضم الراء وإسكان الشين، مع أنه وجه جائز صحيح، وذلك رعاية للتناسب والمشاكلة .

وقد جاءت كلمة «الرُّشْد» معرّفة بالألف واللام فقرئت بضم الراء وسكون الشين، وذلك لأن الحاجة لا تدعو إلى مراعاة الفواصل، فلما انتفى هذا السبب قرئ بالوجه المشار إليه كما قرأ حمزة والكسائي بالتحريك بفتحتين على الوجه الآخر (23).

ومثل هذا الالتزام بوجه واحد مراعاةً للمشاكلة ما ورد في قوله تعالى :

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَاأَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ (24).

إن «لَهَب» الأولى بفتح الهاء أو سكونها، ولكنها قرئت بالفتح، وقرئت «لَهَب» الثانية بالفتح ليس غير رعاية للأولى .

على أنه ورد في تفسير الآلوسي أنّ ابن مُحَيصن وابن كثير قرءا «أبي لَهْب» بسكون الهاء (25).

وإذا كانت المناسبة ورعاية الفواصل قد استدعت أن يُنوَّن ما لا يقبل التنوين في العربية من الكلم، فقد نجد في كلام النحاة تعليقاً على قراءة بعض الآيات ما يُشعر بأن ترك التنوين قد يأتي لغرض التناسب

والمشاكلة .

قال ابن هشام :

وقُرئ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدُ* اللهُ الصَّمَدُ ، كما قرئ : وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ بترك التنوين في «أحَدَ وسابق» ونصب النهار (26).

ولم يشأ ابن هشام أن يفسِّر حذف التنوين بالتناسب كما بيَّنّا، بل ذهب إلى أن العلة التقاء الساكنين، وهو قليل، وقد قاسه على قول أبي الأسود الدؤلي :

ولا ذاكرِ اللهَ إِلاّ قَلِيلا

 فَأَلفيتُه غيرَ مُستعْتِبٍ

قال ابن هشام: آثر ذلك على حذفه للاضافة؛ لارادة تماثل المتعاطفَين في التنكير .

وقلت في الكلام على سورة الفاتحة: إن لغة القرآن تشتمل على أسلوب من تقديم بعض المواد التي حقُّها التأخير، وذلك ليتم نمط من البناء والتركيب تُراعى فيه الفواصل، فيتوفر من الحسن ما لا يتوفر لو كان التركيب والبناء على طبيعته .

ومن هذا قوله تعالى :

إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ* يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (27). إنّ تقديم الجارّ والمجرور «على رجعه» مراعاة للفاصلة التي توفر الحسن .

ومثل هذا من أسلوب التقديم قوله تعالى :

إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (28).

فقد قُدّم الجارّ والمجرور «عنه» ليسلم البناء القائم على الفواصل المتماثلة .

وقد يتجاوز التزام الفواصل ـ أو قل السجع ـ حيّزَ الصوت الواحد إلى صوتين؛ توخّياً للمشاكلة المطلوبة التي يتم بها التناسب البديع، كقوله تعالى :

فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ* وأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ (29).

ألا ترى أن المشاكلة تجاوزت الراء في الآيتين إلى الهاء السابقة للراء ؟! وفي هذا ما فيه من الذهاب إلى الحسن .

وقوله تعالى :

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ .. (30). فقد التزم الراء في الآيتين وما بعدهما قبل الكاف .

وقد يتوفر في الآيات أن يلتزم حرف زيادة على حرف الفاصلة، كما يلتزم البناء أو ما في وزنه أو ما هو قريب منه، كقوله تعالى :

فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الكُنَّسِ (31).

ألا ترى أن السين فاصلة فالتزمت النون المشدّدة قبلها، ثمّ أن البناء من أبنية جموع التكسير ؟ !

ومن هذا قوله تعالى : وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (32). لقد التزمت الراء فاصلة، ثمّ التزمت الطاء وبينهما الواو يحفظ شيئاً من الوزن والتقدير توافق الأصوات .

إن الأصوات المتباعد مخارجها تؤلف الكلمة الفصيحة المقبولة، ولا يمكن أن تتألف من الأصوات المتقاربة في مخارجها، وإلى هذا أشار أهل البيان في فصاحة الكلمة الواحدة. جاء في «اللسان »:

والحروف المتقاربة لا تأتلف في كلمة واحدة أصلية الحروف، فقبح على ألسنة العرب اجتماع الحاء والهاء، لأن الحاء في الحلق بلزق الهاء، ولكنهما يجتمعان في كلمتين لكل واحدة معنى على حدة، قال لبيد :

ولقد يسمع قولي: حيَّ هَلْ(33)

 يتمادى في الذي قلتُ له

ولا تأتلف العين والحاء للسبب نفسه .

قال الخليل: «العين والحاء لا يأتلفان في كلمة واحدة أصلية الحروف لقرب مخرجيهما، إلاّ أن يؤلف فعل من جمع بين كلمتين، مثل: حيَّ على، فيقال من «حيعل »(34).

وقالوا: لم تأتلف الصاد مع السين، ولا مع الزاي في شيء من كلام العرب (35).

وقالوا أيضاً: تأليف القاف والكاف معقوم في بناء العربية؛ لقرب مخرجيهما، إلاّ أن تجيء كملة من كلام العجم معربة (36).

ومن الترقيق والتفخيم بسببٍ من المشاكلة والتناسب ما حصل من ترقيق اللام وتغليظها .

إنّ اللام من اسم «الله» جل ذكره مفخمة أبداً؛ تقول : اللهُ رَبَّي (37) وقوله تعالى : وَقَالَ اللهُ (38) ، وقوله تعالى : وَلاَ إِلَهَ إِلاّ اللهُ (39). ولا تزال اللام مفخَّمة إلاّ أن يأتي قبلها كسرة، فإن زالت الكسرة، رجعت اللام إلى التفخيم، تقول: باسمِ اللهِ، باللهِ، للهِ، فترقق اللام للكسرة التي

قبلها (40).

وقد تفرَّد ورْش عن نافع بتفخيم اللام لحرف الإطباق قبلها، وذلك إذا كان قبل اللام: طاء أو صاد أو ضاد، فالذي يفخَّم نحو : ظَلَمُوا (41) ، وَمَنْ أَظْلَمُ (42) ، والصلاة، ومُصَلَّى، والطلاق، وطلَّقتم، قرأه ورش بالتفخيم ليعمل اللسان عملاً واحداً (43).

وهذا كلّه من باب المشاكلة التي يستدعيها قرب الصوت من الصوت. ألا ترى أنهم قرأوا في سورة الفاتحة: «إهدنا الصراط المستقيم» بالصاد في «الصراط»، ولم يقرأوا بالسين وهو الأصل وذلك لمكان الطاء التي بعدها ؟ !

ولو استقرينا العربية لوجدنا شواهد كثيرة في هذا الباب من غير كلام الله جل شأنه، ثمّ إننا لو تعقّبنا هذا الباب وجدنا أن أبنية العربية جرت على نمط من التوافق والانسجام في الأصوات ما لا تجده في كثير من اللغات ولا سيما أخوات العربية المعروفة .

وسنأتي بشواهدَ من أبنية جموع التكسير، وأقف عليها لأشير إلى مكان المشاكلة في الأصوات .

إن بناء «فُعل» من أبنية هذا الجمع، فنحن نجمع «أحمر وحمراء» هذا الجمع فنقول «حُمْر»، ولكننا نصير إلى شيء آخر إن كان عينه ياءً أو واواً فنقول في أبيض وبيضاء «بِيض»، فنكسر الباء لمكان الياء في الكلمة وكأن الوزن هو «فِعْل». ومثل هذا نقول في «أسودَ وسوداء» «سُود» والأصل سُوْد، ولمكان الضم بعد السين نتحول من الواو التي تشبه الأصوات الساكنة إلى المد وهو صوت نأتي إليه من الضم بعد السين، وليس هذا إلاّ لتحقيق المشاكلة والتناسب .

ومن أبنية الجمع المكسَّر «فُعُول» مثل شهور جمع شهر، وشُهود جمع شاهد، وقُعود جمع قاعِد، وجِثِيّ جمع جاثٍ .

وهذا الجمع الأخير قد عرض له ما عرض بسبب مشاكلة الأصوات حتّى تحوَّل إلى الصيغة، والأصل «فُعُول» بضم الفاء والعين. لو اتبعنا طريقة الصرفيين وهم على حق في الوصول إلى الأمر، لقلنا أن الأصل «جُثوو» ثمّ كان إبدالٌ للواو الأخيرة فصارت ياءً، ثمّ إبدال واو المد ياءً ثانية فصار «جُثُى ي»، ثمّ أُبدلت ضمة الثاء كسرة للمناسبة ، ثمّ تبعتها ضمة الجيم فصارت كسرة للمناسبة أيضاً، فصارت «جِثِيّ » ، وبها قُرئ : وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (44).

وليس هذا في لغة القرآن وحدها، ألا ترى أنهم جمعوا «قوس» على «قِسِيّ» فكان لها ما كان لـ «جِثِيّ ».

وقد يأخذك العجب حين تجد كلمة أخرى كان حقها أن يعرض لها ما عرض لـ «جِثّي»، ولكنها وردت على صورة أخرى هي «بُكِيّ» جمع باكٍ، كقوله تعالى : إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيَّاً (45).

قُرئت بضم الباء ولم تعمل فيها المشاكلة، فوَليت الكسرة الضمة على غير ما تقتضيه المشاكلة الصوتية .

وبعد، فهذه نماذج من فرائد اللغة كان فيها لمشاكلة الكلم وتناسب الأصوات مكان بارز دَلّ على مبلغ ما بلغته لغة التنزيل من الحسن الفائق الذي وفّرته أسرار هذه الصنعة العليّة .

( عن كتاب: من وحي القرآن، تأليف : الدكتور إبراهيم السامرائي، ص 129 ـ 147 )


قراءة في دلالة الألفاظ القرآنية

المنطق الوجداني في القرأن الكريم

عالمية القران و أسراره في عيون كبار المفكرين

القرآن و أثره في تغذية الروح

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)