الدنيا مزرعة الآخرة
و قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : ( الدنيا مزرعة الآخرة ) .
قال الله تعالى : ( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَ مَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) ، ( الإسراء : 18 ـ 19 ) .
ثمّ يقول تعالى : ( كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَ هَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ) ، ( الإسراء : 20 ) .
إنّ كلمة الربّ ، تعني في هذه الآية أنّ الله يمد الجميع بفيضه ، ذلك أنّه خالق العالم و خالق جميع الموجودات ، فمن خصائص الربوبية أن يرزقهم جميعاً ، لافرق في ذلك بين المؤمن و الكافر ، نعم ، إنّ ناموس العلم يقضي ، بأنّ كلّ بذرة تزرع تنمو في أحضان الوجود ، هناك نظام مساعد يرعى هذه الزراعة .
إنّ الأعمال التي نقوم بها ـ حسنة كانت أو سيئة ـ كلّها بذور تنمو في مزرعة هذا العالم ، و لذا قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : ( الدنيا مزرعة الآخرة ) ، و كل امرئ يحصد مايزرع ، لايضيع عمل في هذا العالم ، بل إنّه ينبت في أعماق أرواحنا ، و في أعماق المجتمع ، و من ثمّ في طيّات هذا العالم الذي تحيطه شتّى العوامل المساعدة على النمو .
قال تعالى في محكم كتابه مشيراً إلى الجدل بين النصارى و اليهود و طائفة من الذين آمنوا : ( وَ قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَ قَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ، ( البقرة : 113 ) .
كل يلقى جزاء عمله و ثمرة ما قد زرعه ؛ فالقانون الإلهي لايقبل التغيير ، و هذا ما بشّر به جميع الأنبياء ( عليهم السلام ) ، لقد جاءوا يعلّمون الإنسان أن ( الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) لاحمد إلاّ للذات الإلهية المقدّسة ربّ جميع الموجودات ، و التي تنطوي على الاستعداد ، الذي يوصلها إلى الكمال المنشود ؛ فحبّة القمح تنمو لتصبح نباتاً مكتملاً ، و حبّة الشعير هي الأخرى تنمو فتصبح نباتاً محملاً بالسنابل ، كذلك النواة تنمو فتنشأ عنها نخلة هيفاء .
إنّ مقام الربوبية ، يقضي بأنّ جميع الموجودات في حالة نمو و تكامل ، و لذا فإنّ سعادة كل إنسان ، إنّما تتوقّف عليه نفسه ، عليه أن يدرك أنّ كلّ عمل يقوم به ، إنّما هو بذرة يزرعها في مزرعة الوجود ، و أنّه سيذوق ثمرة ما قد بذر حلوة كانت أم مرّة ، ذلك أنّه لا يستطيع أن يذوق أو يستفيد من ثمار إنسان آخر ، كما أنّ أي إنسان لايمكنه أن يستفيد أو يتناول من ثماره ، و إنّ أي إنسان لايمكنه أن يزرع السيّئات فيحصد منها الحسنات .
كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يوصي ابنته الصدّيقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، و التي كانت تحتل من قلبه منزلة لايدانيها فيها أحد ، كان يوصيها بقوله : ( إنّي لا أغني عنكِ شيئاً ) .
و هذه حقيقة كثيراً ما كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، يؤكّدها منذ فجر الدعوة الإسلامية ، فقد جمع رجالاً من عشيرته الأقربين ، و ذلك من بعثته ( صلى الله عليه و آله ) و أنذرهم قائلاً : ( يا بني عبد المطلب ، لاتقولوا محمّد منّا ، فو الذي نفسي بيده لاأغني عنكم من الله شيئاً ، و إن كل امرئ ، و ما كسبت يداه خيراً فخير ، و إن شرّاً فشر ) .
طلب أحدهم من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يعظه ، فقال ( عليه السلام ) : ( لاتَكُنْ مِمَنْ يَرجو الآخِرَة بِغَير عَمَل ، و يَرْجو التَوْبَة بطول الأمَل ) .
الدين في الذهن البشري