البخل ومساؤه وعلاجه
البخل :
وهو : الإمساك عمّا يحسن السخاء فيه ، وهو ضدّ الكرم ، والبخل من السجايا الذميمة ، الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه ، وقد عابها الإسلام ، وحذّر المسلمين منها تحذيراً رهيباً .
قال تعالى : ( هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ) محمّد : 38 .
وقال تعالى : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) النساء : 37 .
وقال تعالى : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) آل عمران : 180 .
وعن الإمام الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( أنّ أمير المؤمنين سمع رجلاً يقول : إنّ الشحيح أغدرُ من الظالم ، فقال : كذبت إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ، ويردّ الظلامة عن أهلها ، والشحيح إذا شحَّ منع الزكاة ، والصدقة ، وصلة الرحم ، وقرى الضيف ، والنفقة في سبيل الله تعالى ، وأبواب البر ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح ) .
وعن الإمام الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنّة ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، قريب من النار ) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ، ويفوته الغنى الذي إيّاه طلب ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء ) .
مسا
وئ البخل :
البخل سجية خسيسة ، وخُلق لئيم باعث على المساوئ الجمّة ، والأخطار الجسيمة في دنيا الإنسان وأخراه .
أمّا خطره الأُخروي : فقد أعربت عنه أقوال أهل البيت ( عليهم السلام ) ولخّصه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حيث قال : ( والشحيح إذ شحَّ منع الزكاة ، والصدقة ، وصلة الرحم ، وقِرى الضيف ، والنفقة في سبيل الله ، وأبواب البر ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح ) .
وأمّا خطره الدنيوي فإنّه داعية المقت والازدراء ، لدى القريب والبعيد وربما تمنى موتَ البخيل أقربُهم إليه ، وأحبّهم له ، لحرمانه من نواله وطمعاً في تراثه .
والبخيل بعد هذا أشدّ الناس عناءً وشقاءً ، يكدح في جمع المال والثراء ، ولا يستمتع به ، وسرعان ما يخلفّه للوارث ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء .
علاج البخل :
وحيث كان البخل من النزعات الخسيسة ، فجدير بالعاقل علاجه ومكافحته ، وإليك بعض النصائح العلاجية له :
1ـ أن يستعرض ما أسلفناه من محاسن الكرم ، ومساوئ البخل ، فذلك يخفف من سَورة البخل ، وان لم يُجدِ ذلك ، كان على الشحيح أن يخادع نفسه بتشويقها إلى السخاء ، رغبة في الثناء والسمعة ، فإذا ما أنس بالبذل ، وارتاح إليه ، هذّب نفسه بالإخلاص ، وحبّب إليها البذل في سبيل الله عز وجل .
2ـ للبخل أسباب ودوافع ، وعلاجه منوط بعلاجها ، وبدرء الأسباب تزول المسبّبات .
وأقوى دوافع الشحّ خوف الفقر ، وهذا الخوف من نزعات الشيطان ، وإيحائه المثبِّط عن السخاء ، وقد عالج القرآن الكريم ذلك بأسلوبه البديع الحكيم ، فقرّر : أن الإمساك لا يجدي البخيل نفعاً ، وإنّما ينعكس عليه إفلاساً وحرماناً ، فقال تعالى : ( هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ) محمّد : 38 .
وقرّر كذلك أن ما يسديه المرء من عوارف السخاء لا تضيع هدراً ، بل تعود مخلوقة على المُسدي من الرزاق الكريم ، قال عز وجل : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) سبأ : 39 .
وهكذا يضاعف القرآن تشويقه إلى السخاء ، مؤكّداً أنّ المنفق في سبيل الله هو كالمقرض لله عز وجل ، وأنّه تعالى بلطفه الواسع يُّرَدُ عليه القرض أضعافاً مضاعفة ، قال الله تعالى : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة : 261 .
أمّا الذين استرقهم البخل ، ولم يُجدهم الإغراء والتشويق إلى السخاء ، يوجّه القرآن الكريم إليهم تهديداً رهيباً ، يملأ النفس ويهزّ المشاعر ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) التوبة : 34 ـ 35 .
ومن دواعي البخل : اهتمام الآباء بمستقبل أبنائهم من بعدهم ، فيضنون بالمال توفيراً لأولادهم ، وليكون ذخيرة لهم ، تقيهم العوز والفاقة ، وهذه غريزة عاطفية راسخة في الإنسان ، لا تضرّه ولا تجحف به ، ما دامت سويّة معتدلة ، بعيدة عن الإفراط والمغالاة .
بيد أنّه لا يليق بالعاقل ، أن يسرف فيها ، وينجرف بتيّارها ، مضحّياً بمصالحه الدنيوية والدينية في سبيل أبنائه .
وقد حذّر القرآن الكريم الآباء من سطوة تلك العاطفة ، وسيطرتها عليهم كيلا يفتتنوا بحب أبنائهم ، ويقترفوا في سبيلهم ما يخالف الدين والضمير ، قال تعالى : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) الأنفال : 28 .
وأعظم بما قاله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في كتاب له : ( أمّا بعد ، فإنّ الذي في يديك من الدنيا ، قد كان له أهل قبلك ، وهو صائر إلى أهل بعدك ، وإنّما أنت جامع لأحد رجلين : رجل عمل فيما جمعته بطاعة الله ، فسعد بما شقيت به ، أو رجل عمل فيه بمعصية الله ، فشقي بما جمعت له ، وليس أحد هذين أهلاً أن تؤثّره على نفسك ، وتحمل له على ظهرك ، فارجو لمن مضى رحمة الله ، ولمن بقيَ رزق الله ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في قول الله تعالى : ( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) البقرة : 167 ، قال : ( هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلاً ، ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله ، أو في معصية الله ، فإن عمل فيه بطاعة الله ، رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً ، وقد كان المال له ، وإن كان عمل به في معصية الله ، قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية الله ) .
وهناك فئة تعشق المال لذاته ، وتهيم بحبّه ، دون أن تتخذه وسيلة إلى سعادة دينية أو دنيوية ، وإنّما تجد أنسها ومتعتها في اكتتاز المال فحسب ، ومن ثمّ تبخل به أشدّ البخل .
وهذا هوَس نفسي ، يُشقي أربابه ، ويوردهم المهالك ، ليس المال غاية ، وإنّما هو ذريعة لمآرب المعاش أو المعاد ، فإذا انتفت الذريعتان غدا المال تافهاً عديم النفع .
وكيف يكدح المرء في جمع المال واكتنازه ؟! ثمّ سرعان ما يغنمه الوارث ، ويتمتّع به ، فيكون له المهنى وللمورث الوزر والعناء .
وقد استنكر القرآن الكريم هذا الهَوسَ ، وأنذر أربابه إنذاراً رهيباً ، قال تعالى : ( كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) الفجر : 17 ـ 26 .
وقال تعالى : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ) الهمزة : 1 ـ 9 .
وأبلغُ ما أثر في هذا المجال ، كلمة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهي في القمّة من الحكمة وسمو المعنى ، قال ( عليه السلام ) : ( إنّما الدنيا فناء وعناء ، وغِيَر وعِبَرِ .
فمن فنائها : أنّك ترى الدهر مُوتِراً قوسه ، مفوقاً نبله ، لا تخطئ سهامه ، ولا تشفى جراحه ، يرمي الصحيحَ بالسقم ، والحيَّ بالموت .
ومن عنائها : أنَّ المرء يجمع ما لا يأكل ، ويبني ما لا يسكن ، ثمّ يخرج إلى الله لا مالاً حمل ، ولا بناءاً نقل .
ومن غِيَرها : أنّك ترى المغبوط مرحوماً ، والمرحوم مغبوطاً ، ليس بينهم إلاّ نعيم زلّ ، وبؤس نزل .
ومن عِبَرها : أنّ المرء يشرف على أمله ، فيتخطفه أجله ، فلا أمل مدروك ، ولا مؤُمَّل متروك ) .