الفلسفة التربوية الاسلامية في العمق الانساني
منح الإسلام التربية و التعليم اهمية كبيرة، فلقد كانت اولى الأيات القرآنية (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم) فالتربية في الاسلام هي الوسيلة التي ميز بها الله آدم على غيره من المخلوقات،والأداة التي استخدمها الرسول (ص) في نشر الدين وتنظيم الحياة بجميع ميادينها.
قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
وتختلف الفلسفة التربوية الاسلامية عن الفلسفات الأخرى في انها لا يمكن أن تفهم دون معرفة موقعها في إِطار التصور الاسلامي الكامل للإنسان و الحياة، فهي ليست كما منفصلاً عن غاية الدين ومنهج الاسلام في الحياة.
إن الإنسان لديه القدرة على التعلم واكتساب المعرفة، وهو أرقى المخلوقات جميعاً وأعلاها مرتبة لأنه جامع لكل صفاتها ومتميز عليها بالقدرة والاختيار فهو الكائن الحي، العاقل، القادر، المختار، المكلف، ولقد كرم الله الإنسان على سائر مخلوقاته، فالإنسانية في الإنسان ليست بجسده المادي المعقد، وإنما الإنسانية فيه هي ارتقاء بنفسه الى الدرجة التي تؤهله لتحمل تبعات التكليف وأمانة المسؤولية حتى تصل الى المقام الخاص به.
مبادئ تربوية هامة
ولقد تضمنت التربية الاسلامية، العديد من المبادئ التربوية الهامة ذات القيمة العلمية والإسلامية، وتحتل مكانة مرموقة في الفكر التربوي، ومن أهم تلك المبادئ، الرفق بالمخطئ والاشفاق عليه، فالإسلام لا يجيز مقابلة المخطئ بالعنف والقهر والتشنيع به والسخرية منه، لأن ذلك يؤدي الى اذلاله وتحطيم شخصيته، وأولى المخطئين بالاشفاق، من كان خطؤه عن جهل أو غفلة.
ولا يعني الرفق بالمخطئ، السكوت على خطئه، لأن في هذا اقراراً للخطأ، وتشجيعاً عليه، فالرفق والإشفاق لا ينافي تنبيه المخطئ الى خطئه بل زجره عنه بالرفق المناسب لظروف الخطأ بالتي هي أحسن.
فالمسلم الذي يخطئ، يجب ألا يعنّف، بل لابد أن يعلم لأن الشريعة الاسلامية أمرت بذلك في الكثير من وصاياها وتعاليمها.
ونستخلص من هذا إن الاشفاق مبدأ يأتي بثماره في تربية الناس ونتشئتهم على الفضيلة اكثر من التعنيف والقهر، فما أحرى بالمجتمع الاسلامي أن يأخذ بهذا المبدأ، وما أحرى بالنظم التربوية في اتباع ذلك في تعليم الناس صغاراً أم كباراً.
إننا عندما نستخدم مبدأ التشجيع في التعليم، فإننا بذلك نزيد في قدرة التمعلم على التعليم وبالتالي تزداد رغبته في طلبه.
والإسلام يشجع المواهب ويحترم المشاعر ويغرس الثقة في نفوس المتعلمين، لأن ذلك يساعدهم في تكامل شخصياتهم ويدفعهم إلى انجاز العمل بكل دقة، وهذا يحرص الاسلام على احترام المتعلم، لأنه الاصل في العملية التربوية، وهو الغاية في عملية التعليم، فأول أدب يقدمه المعلم للمتعلم هو أن يكون بشوشاً في وجهه، ويظهر له البهجة والسرور، حتى يطمئن ويزول عنه التوتر فيتمكن من استقبال المعرفة من معلم لا يخشاه بقدر ما يحترمه.
وكما يحترم الاسلام المتعلم، فإنه يحث على الرفق به والحنوا عليه مقتدياً بالمعلم الاول (ص) الذي وصفه الله في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول في انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة:۱۲۸.
وقد أمر النبي (ص) بالتيسير في اثناء التعليم والأخذ بالتدريج وعدم تكليف النفس فوق طاقتها، إذ يقول: (علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف) لأن الله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، وهو يحب الرفق في الأمر كله، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما دخل العنف في شيء الا شانه، وأحق الأمور بالرفق التعليم، وعلى المربين ألا يعنفوا متعلماً ولا يحتقروا ناشئاً ولا يستصغروا مبتدئاً لأن ذلك أحق على الرغبة فيما لديهم.
وكان النبي (ص) أبعد المعلمين عن التشديد والتعسير والفظاظة، والغلظة، وهذا ما نوه به القرآن الكريم في أخلاقه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) آل عمران/۱۵۹.
ولم يشرع الإسلام استخدام العصا، والتربويون الحديثون لا يجيزون استعمال العنف، لأن الدين الاسلامي لم يسمح بضرب الصغار، إلا في حالة واحدة وهي حثهم على الصلاة، وحتى في هذا فهي مشروطة، بعد أن يتجاوز السبع ، وهنا يأتي الضرب لا مبدأ عقاب، ولكن إشعاراً للطفل بأن الأمر ليس هيناً، لما للصلاة من أهمية وقيمة في حياة المسلم.
التدرج التربوي
في المبادئ التي حرص عليها الاسلام في مجال التربية، التدرج في التعليم ومراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، سواء كانت المواقف التعليمية قضايا تكليفية أو تشريعية او تربوية، لأمر يقصده المشرع الحكيم، ونتعلم من هذا المناهج الرباني في قضايا التعليم.
وينبغي مراعاة الفروق الفردية بين الافراد والبيئات والانواع، فما يصلح لشخص لا يصلح لأخر، وما يناسب بيئة لا يناسب أخرى، وما يصلح لفترة زمنية لا يصلح لفترة زمنية أخرى، والتربوي الناجح هو الذي يعطي كل إنسان فرداً أو جماعة في العلم ما يناسبه في الوقت الملائم وبالقدر الذي ينتفع به، ولنا في أهل البيت (ع) أسوة حسنة في مراعاة الفروق الفردية والمواقف، والدليل على ذلك وصاياهم (ع) والحقيقة إن الاسلام لم يقتصر على مراعاة الفروق الفردية في حد ذاتها بل تعداها الى موجهة تلك الفروق فيما يتعلق بالكيف والنوع، بمعنى أن يبدأ المربي مع المتعلمين بالواضح من العلم قبل الخفي، والبسيط قبل المعقد، والخفيف قبل الثقيل، وبالجزء قبل الكل، وبالعملي قبل النظري، ومن المحسوس قبل المجرد .. أي أخذ المسائل الجزئية قبل الكلية أو المقدمات قبل المقاصد الاساسية.
وسائل تعليمية فاعلة
إن الاسلام يؤكد على استخدام الوسائل التعليمية في تربية الناس وتعليمهم من أجل تقريب المفاهيم الى أذهانهم، فيساعدهم ذلك على الاستيعاب والفهم.
فالمسلم يربى بالقدوة والموعظة والعقوبة والقصة، كما توجد أساليب أخرى كالحوار القرآني والنبوي، والقصص القرآنية وسيرة أهل البيت (ع) والتربية بضرب الأمثال بالقدوة، وكذلك الممارسة والعمل والعبرة والتربية بالترغيب والترهيب.
ولقد بلغ من شرف مهنة التعليم أن جعلها الله من جملة المهمات التي كلف بها رسوله، قال تعالى: (لقد منّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) آل عمران/۱۶۴.
وتؤكد التربية الاسلامية على مكانة وأهمية دور المعلم وعلى أنه ينبغي أن يتصف بصفات أهمها: أن يكون هدفه وسلوكه وتفكيره ربانياً، وأن يكون مخلصاً، صادقاً، عارفاً بأساليب التدريس المتنوعة وأن يتخير الاسلوب المناسب للموقف التدريسي، وأن يكون قادراً على الضبط والسيطرة، حازماً، رحيماً، دارساً لنفسية الطلاب، واعياً بالمؤثرات والاتجاهات العالمية وما تتركه من آثار على نفوس الجيل ومعتقداته.
أما فيما يتعلق بالمناهج الدراسية، فتحرص التريبة الاسلامية كل الحرص على تعليم أفراد المجتمع أصول دينهم، وأن يتعرفوا على أحكام الشرع وأسس العقيدة، ومن الطبيعي أن يكون تعليم القرآن وتعلمه هو الاساس في هذا الجانب من التعليم.
ولقد أكد الرسول (ص) بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أهمية تعليم كتاب الله العزيز و أنه هو الأساس للمنهج في التربية الاسلامية، ولفهم القرآن والتعمق في آياته والإحاطة بما ورد بها من أحكام يستلزم الأمر تعلم علوم أخرى اصبح تعلمها لازماً لزوم تعلم القرآن نفسه، لأنها هي التي تعين على فهمه وإدراك مدلوله ومعرفة معنى آياته.
ومع تأكيد التربية الاسلامية على جعل القرآن وعلوم أهل البيت (ع) محوراً أساسياً للمناهج، فلقد أكدت أيضاً على الاهتمام بعلوم الدين كالفقه والتفسير والحديث وعلوم اللغة والتاريخ الاسلامي، ولقد ارتبط بعلوم الدين جملة من العلوم الأخرى اهمها علم الكلام والمنطق والفلسفة.
علوم الحياة
إن ما تم ذكره لا يعني أبداً أن تقتصر المناهج على العبادة فقط بل تشمل ايضاً علوم الحياة .. فالتعليم في المناهج الاسلامي لابد أن يهتم بعلوم الدين لا باعتبارها علوماً منقطعة الصلة بالحياة، بل باعتبارها العلوم التي تساعد المسلم على أن يعرف اصول دينه ويقرأ كتابه ويلم بأحكامه.
إن المناهج الاسلامي يهتم بعلوم الحياة باعتبارها وسائل العمل وأدوات الانتاج، وسلاح المؤمن في عمران الأرض باعتباره خليفة الله في أرضه، لذا كان لزاماً على المؤمن أن يحيي تلك الأرض لتؤتي خير ثمارها فينعم بها وبما فيها من خير وزينة وجمال.
ومن هنا، فإن جانب الحياة يأخذ في منهاج التربية الاسلامية نفس القدر من الاهتمام والرعاية التي يأخذها جانب الدين واللغة وعلومها.
إن نظرة الاسلام الى الإنسان كوحدة (عقل وروح وجسم) تتكامل قواه جميعاً فيما بينها، يحتم على التربية الصحيحة أن تهدف إلى تنمية كل تلك الطاقات على حد سواء بما يحقق التكامل بينها، قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً).
و الانسان يعمل لدنياه ويعمل لأخرته، قال سبحانه: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الأخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).
ومن ثم كان التربية في الاسلام أن تهدف الى تعريف المرء بأمور دينه وتصحيح عقيدته ليعبد ربه ويخلص قلبه ويطهر روحه ويتجه الى مولاه في كل أموره، وكذلك إعداد المرء لحياته وتزويده بالمعارف المهنية والعلمية والعملية، فالتربية في الاسلام تهدف الى اصلاح الفرد تكويناً وسلوكاً وعملاً، وتحرص على أن يتكون (الفرد المسلم) تكويناً يندمج في مجتمعه ويمل لخير المسلمين جميعاً، لأن المسلم أخوا المسلم، فهي تؤكد الناحية السلوكية كما تؤكد فردية الفرد واجتماعيته.
والتربية الاسلامية، تربية تقوم على تعليم المسلم أن يراعي العدل والعدالة بما يقتضيه ذلك من قوله الحق ولو على نفسه والنظر الى بني البشر جميعاً على انهم سواسية كأسنان المشط، فلا فضل لأحد منهم على الأخر إلا بالتقوى.
إنها تربية تقوم على تحقيق الحرية للمسلم، فالمسلم حر الإرادة والتصرف مادام يوافق الشرع، كما إنها تربية أخلاقية تقوم على الأخلاق والقيم الاخلاقية السامية، وهي تربية إيمانية تقوم على ركيزة الإيمان وتتسق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
بين التربية الاسلامية والوضعية
نعم، إن التربية الاسلامية تربية محافظة مجددة، إنسانية عالمية، فهي محافظة بما تقوم عليه من مبادئ سماوية خالدة راسخة ثابتة وقيم أصيلة، وهي مجددة لأن الاسلام صالح لكل زمان ومكان، وعلى التربية الاسلامية أن تكون متجددة لتواجه متطلبات العصر.
وهي انسانية تنظر الى الانسان باعتباره خليفة الله على الارض، ذلك الانسان الذي فضله الله على كثير ممن خلق، وهي عالمية لأنها تنظر الى الكون على أنه وحدة متكاملة من صنع الخالق عز وجل، وإنه خلق الانسان ليعيده حيثما كان موقعه في هذا الكون، كما إنها ليست تربية دينية فحسب بل تربية شمولية لاتقتصر على الاهتمام بعلاقة الانسان بالخالق فحسب، بل وامتدت لتكون منهجاً للحياة في كافة جوانبها، فهي تهتم بحياة الانسان بجانبيها المادي والمعنوي.
إذاً، فالتربية الاسلامية ليست تربية فردية واجتماعية فحسب بل هي ايضاً تربية شمولية عالمية لا تقتصر على نوع معين من البشر أو المجتمعات، بل تمتد الى الكون بأسره.
إنها تربية ليس لها حد تقف عنده أو نهاية تنتهي لها، بل هي تربية متصلة باتصال الحياة دائمة بدوامها، تصاحب المرء في كل مراحل حياته.
أما التربية في النظم الوضعية التي تسود في المجتمعات غير الإسلامية، فهي تربية سطحية منقوصة لا تخاطب العمق الإنساني، ولا تلامس الوعي الوجداني لدى الفرد، ولذلك فهي ليست ذات تأثير محسوس على السلوك الخارجي لديه، ولا تفجّر النداءات الخيرة في داخله، وبلحاظ هذه الامور، ينشأ الفرد جامد الإحساس في نظرة للأخر، ينهار في أول صدمة من صدمات الحياة.
وأما المعرفة التي يكتسبها الإنسان في المجتمعات الغربية وغير الإسلامية طيلة حياته لا تعصمه من الانزلاق في هاوية الانحطاط والتردي في المزاق الاخلاقية المهلكة.